بقلم:مهدي الدهش
تتعارف المجتمعات البشرية ومنذ أن ظهرت بشكلها القائم هذا اليوم والممتد لزمن ليس بالهيّن، على جملة واسعة من أعراف الطبائع الخُلُقيّة المبثوثة بين أفرادها على ضوء أنماط متباينة وأشكال مُتنوّعة من أساليب التعامل البيني، والمُستند لمشارب مُختلفة وموارد شتى. ومنها الأديان والأعراف المحليّة وتقاليد المناطق الجغرافية المتنوّعة وكذلك ظواهر المكنونات النفسيّة وتعاليم حُكمائها وحُكامها أيضا.
لكل مورد مما ذكر أعلاه، جملة من الخطوط العامة والعريضة، التي بدورها تقود لتشعبات أكثر دقة وأوضح معنى وأبلغ، من حيث الفهم والأستيعاب بالنسبة لمستوى المُتلقي، ذلك الفرد ضمن المجموع والمطلوب منه أن يَعكس ما طُبع في فهمه على سلوكياته ويُظهر طبائعه الأصليّة مع الآخرين.
للأديان حصة لا يُستهان بها، في باب التوجيه والبناء الخُلُقي بالنسبة لمُعتنقيها، سواء الوضعية منها أم الرسالية. وتتجلى عادة تلك التعاليم في الخطوات الأولى لكل فلسفة دينية جاءت وتبلورت بين أقوام المعمورة، من خلال النصوص التحريضيّة على إنتهاج نمط سلوكي مقبول ومستقر ويتجنب وقوع الإساءة للآخر، مهما كان جنسه ولونه ومعتقده وطريقة تفكيره.
وأمّا بالنسبة للأعراف والتقاليد المحليّة السائدة عادة بين الأقوام، فهي تستند لمخطط من البناء النفسي القائم على جملة من الموحدات والروابط الأثنية المُتجهة صوب التأسيس لرابط قومي، والمُتبلورة عبر عقود طويلة من الزمن لجماعة من الجماعات، فتنتهج تقاليد تختص بها وتمييزها عن الجماعات الأخرى، ذلك حسب ما تعارف عليه أفرادها وتوارثه أبنائها عبر تعاقب الأجيال. فتصبح لديهم حصيلة يمكن الركون إليها والإستعانة بها في باب التوجيه الخُلُقي لديهم.
بعض المجتمعات أو أغلبها، خاضت تجارب طويلة مع مُختلف نظريات الحُكم، عبر سلسلة طويلة من تعاقب الأجيال في ضوء نظرية (التصارع والطموح). فقد عضّد تلك المراحل وأسهم فيها من قريب أو بعيد فلاسفتها وحُكمائها، سواء كانوا مُقرّبين من الجاهز الحاكم أم الشعب. وتركت تلك المحن والأهوال شيء من معاني الأخلاق السلبية في النفوس لدى عامة السكان، كما كانت سنوات الرخاء والعيش الرغيد قد ولّدة لديهم نمطاً خُلُقياً آخر.
وللعوامل الجغرافية إنعكاسها المَقرون بشواهد وأدلّة وثقتها كتابات الرحّالة والمُتتبعين لعادات الشعوب والأقوام وطبائعها، عبر حقب مُختلفة وأمكنة مُتعددة. حيث يبدو أن للعوامل الطبيعية تأثيراتها المُتوقعة عن نشوء بعض الظواهر السلوكية لأقوام سكنت أماكن معيّنة وعاشت ضمن أجواء بيئية ومناخية ذات ملامح محددة. فجاء سلوك الفرد متناغماً ومُحيطهُ الطبيعي ذو التأثير النفسي الظاهر من خلال عادات أخلاقيّة مُميّزة سواء بالسلب أم الإيجاب، (علماً أن التقييم هنا يأتي بإطار من النسبيّة في التَقبّول أو الرفض، من مكان إلى آخر ومن زمن لآخر).
لقد إستعرض الدكتور عباس جبير التميمي (أستاذ التأريخ الإسلامي ـ أندلسي ـ) والدكتورة إنتصار لطيف السبتي (أستاذة التأريخ الإسلامي ـ أموي ـ) في جامعة كربـــــلاء، الموضوع هذا في كتابهما الصادر عن ـ دار تموز ـ في دمشق، والذي جاء حاملاً لمعنى الدراسة عبر عنوان ((أخلاق الشعوب ــ من خلال الرحّالة العرب والمسلمين))، في صفحاته التي جاوزت ال (110) صفحة مع الفهرست من القطع الوزيري.
أظهر الأستاذ الباحث، براعة علمية في كيفية الكشف عمّا يروم تأشيره، ذلك من خلال تقليب المصادر والمراجع العربية في الفترة الإسلامية وتتبعها في أدق التفاصيل، ومحاولة فهم النص الوارد ضمنها بشكل لا يقبل اللبس أو الإشتباه. فالمعروف عَن كُتّاب المَراحل الزمنيّة المُبَكرة ـ زمن التأليف ـ أن إستندوا واعتمدوا طبيعة اللغة وأساليبها الرائجة آبان وقتهم، وبالتالي هي تختلف من بعض الوجوه في مفهومها عن وقتنا الحاضر. وبالطبع فأنّ هذا الإختلاط في المفاهيم قد يقع في شباكه ذلك الشخص ذو الحض القليل من الخبرة أو ضعيف المُتابعة للنصوص وإستيعابها. وهذا بالطبع لا ينطبق الأستاذ التميمي.
لقد عالج المؤلفان هذه الموضوعة بإسلوب علمي شيّق. ذلك عبر مُقدّمة أوضحا فيها الهدف المُراد من تأليف هذه الدراسة، وكذلك أفردا أبواباً منوّعة تناولا من خلالها التعريف بأشهر ما قيل في الأخلاق من نصوص نثريّة وآيات قرآنية، وتم التعريج صوب ذكر مقاييس أخلاق الشعوب وحسب تقدير شخصيات مُتعددة ورؤاها. ومن الطرائف التي أودعاها في البحث، هي تلك العلاقة القائمة ما بين أخلاق السكان من جانب وحروف أسماء مدنهم من جانب آخر، كما ذكر ذلك الرحّالة والمؤرخ المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم).
كذلك تطرق البحث للحديث عن وصف عام لأخلاق الشعوب وذلك حسب ما ذكرته المصادر الخاصة بالرحلات والإستكشافات الجغرافية لعدد من علماء العرب في حقب مُختلفة من زمن الدول الإسلاميّة. وتطرّق أيضا لعدد من المصادر العربية التي أماطة اللثام عن بعض الجوانب العامة لأخلاق سكان الحواضر العربية والإسلاميّة وغيرها في عالم ذلك الزمان، ذلك بالإستناد لأقوال بعض العارفين من خلال حوارات دارة بينهم وبين المُستفهمين عن أحوال تلك المُدن وسكانها.
وقد جاء ترتيب أسماء المدن والحواضر في الدراسة، مُعتمداً منهج (الألف بائية)، تسهيلاً للطلب وتيسيراً في الوصول للمكان المراد معرفة شيء عن صفات سكانه وأخلاقهم وطبائعهم في تلك الأزمان القديمة.
هذا وفيما يُذكر بصدد الموضوع، أن الوصف للمناطق وأهلها جاء حاملاً لوجهين من العملة وجانبين من الصورة للمكان الواحد. أي أن الموضوعية حاولت أن تأخذ مداها الطبيعي بعض الشيء لدى مَنْ كتب وألّف ونقل الأوصاف وأسندها. بعيداً عن جوانب التعنصر غير المُبرر أو التحامل النابع عن غرض مُسبق.
لقد بيّن المؤلف مُختلف التفاصيل والحالات التي جاءت تحمل معاني مُتخالفة ومُقتطفات مُنوّعة، سواء نثراً كان النص أم شعرا. هذا وقد أجاد الباحثين في إستظهار بواطن الكتب وإستجلاء مقالات المؤلفين القدماء، عبر فطنة تأريخية وجوانب تحليلية ممتازة يمتلكانها، حيث تجسّدت من خلال إساليب العرض المُتبعة وطريقة الطرح للمادة. هذا إلى جانب أن النصوص جاءت موثّقة عبر طيف واسع من الهوامش والأسانيد المذكورة في صفحات البحث النادر هذا شكلاً ومضمون. والتي تعضدها قائمة المصادر المُثبته آخر الكتاب، حيث بلغ مجموع ما رجع له الباحثين زهاء ثلاثين مصدراً أصلياً، قد تنوّعت في مشاربها وتعددت في مساحة تغطيتها الزمنية والمكانية لمرحلة واسعة من التأريخ الإنساني.
وخلاصة القول إن الحديث في الباب هذا جاء ممتعاً ومتوازناً، حافظاً لأساليب البحث العلمي الرصين، والإستقصاء المعرفي المبني على أسس متينة من لوازم البحث (الجيوتاريخي) المعتمد مكيال الحيادية والنفس المحمود في باب التنقيب والحفر في النصوص المبثوثة هنا وهناك، وصولاً لتقديم مادة جديدة في رؤيتها، تهدف أولاً وآخراً النهوض بواقع الثقافة العربية المعاصرة.
أقرأ ايضاً
- الأهمية العسكرية للبحر الاحمر.. قراءة في البعد الجيوستراتيجي
- الغدير.. بين رأي السياسي وقراءة المخالف
- قراءةٌ في مقال السفيرة الأميركيَّة