بقلم: عادل الموسوي
"العلوية"
اعارني احد الاصدقاء كتابا، في فترة قَلَت فيها الشهية للقراءة تماما، ركنته أعلى المكتبة -التي لم أعد اغضب جدا عند عبث الأطفال بها- ساءت الأحوال وادبرت الدنيا وكانت لي معيشة ضنكا، استمر ذلك لفترة ليست بالوجيزة، كنت متذمرا من دوام هذا الحال ومنزعجا، اتسائل في نفسي واتمتم متأففا عن سبب توالي تلك المنغصات..
صباح احد أيام العمل وقعت عيني على ذلك الكتاب، بدا لي أن ارجعه لصاحبه -كان زميلا لي في العمل- بعد أن طالت المدة ولم اقرأ منه صفحة، وصلت مبكرا، وضعت الكتاب على المكتب جانبا، كانت هناك فسحة مملة قبل أن يتوالى دخول الزملاء، امتدت يدي إلى الكتاب، فتحته لا إلى صفحة بعينها، وقعت عيني على بداية فقرة، بدأت بالقراءة متأنيا.. أحدهم يسأل احد العلماء أو الحكماء أو العارفين -لا أذكر- أنه يعاني من ضنك العيش وادبار الدنيا وسوء الأحوال واوصاف أخرى تنطبق تماما مع ما اعانيه، فقال له المجيب: "اذهب الى اختك وارضها فقد اغضبتها.." أو "فهي غاضبة عليك.." او ما بهذا المعنى..الان قد حصحص الحق!
كانت تصغرني بعامين، تكون بضيافتنا اسبوع او اكثر بأيام، لها أطفال مشاكسون مزعجون يعبثون بكل شيء، صرختُ مرة بإحدهم فأزعجني أنها ضربته بشدة -وكأنها لم ترض ردة فعلي فوجهت حنقها إلى الطفل- فأهلت عليها وابلا من كلمات توبيخ قاسية، غضبت ولم تكلمني من رأسها كلمة..
قطعت زيارتي فلم أعبأ.. لم أجد عند نفسي ذنبا أو خطأ أو تقصيرا.. غابت عن اهتمامي في زحمة الحياة والعمل والمعكرات والمكدرات.. نسيت تماما ذلك الموقف حتى جائني ذلك الجواب: "اذهب الى اختك فارضها.."
ارضيتها وقبلت رأسها ودسست في يدها عشرة آلاف كهدية متواضعة..
كان اسمها "فاطمة".
كان بعد ذلك فرجة.. أستوسقت الأمور وتواترت النعم وتوالت التوفيقات..
"خبز شعير وروبة"
قرأت في احد الكتب في فترة من فترات الاقبال رواية تشير الى طعام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، خبز شعير ولبن.. فشعرت بنفحة شوق شديد غريب إلى ذلك الطعام.. كان ذلك في يوم جمعة او اجازة، كان الوقت ضحى وغالبا ما كنت أشعر بشيء من الجوع في مثل هذا الوقت لتناولي للافطار مبكرا..
اغلقت الكتاب متاملا.. خرجت إلى باحة الدار ثم فتحت الباب إلى الزقاق فإذا بحازم -صديقي- وقد أوقف مركبته "السايبة" ونزل للسلام مصافحا..
- "سيد وروح جدك شلون خبزات شعير حارّات"
- نعم بكل سرور "اريد گرصه وحده، وبعدين اسولفلك"
- "لا الله عليك"
لا أذكر ان قصصت عليه القصص حينذاك ام في حين آخر!
دخلت الدار حاملا رغيفي فلقيت والدتي رحمها الله.. صبحتها بالخير وضممتها وقبلت رأسها..
- "ابو علي شلون روبة حلوه صاكة چنها گيمر"
- "اي والله وكتها.."
- هاي خبزة الشعير منين لك؟!"
- "من صاحبي حازم"
- "الله يحفظه ويحفظ وليداته"
جائت لي بـ"كاسة الروبة" فأكلت الذ ما اكلت في حياتي وكأنه طعام اهدي لي من الجنة.
"لا تفشي السر"
نويت أمراً وحيرني الإفصاح عنه أشد حيرة، وكنت أخشى الخيرة، لأنها تزيد من حيرتي وتلزمني بما احار فيه أكثر.. وبين هن وهن واخذ ورد وصراع وصداع وتزاحم المرجحات والمثبطات.. غفلت برهة!
وجدت فسحة في العمل فبدا لي أن أزور الأمامين الكاظمين عليهما السلام، توجهت، فأكملت مراسيم الزيارة وبعض الركعات، وقفلت راجعا، خرجت من باب المراد واستمسكت بعروته مودعا..
التفت يمينا فوقعت عيني على معرض للكتاب الدائم في غرف من السور الخارجي من جهة باب المراد، بدا لي أن أدخل المعرض -فقد كان في الوقت فسحة- دخلت.. خطوات فوقعت عيني على كتاب.. تناولته.. فتحته لا على صفحة مقصودة.. قرأت في بداية الصفحة اليمنى: "لا تفشي السر فتندم"..
اغلقت الكتاب وخرجت من المعرض وعدت إلى العمل..
بعد مدة قصيرة أنجزت الأمر وتحقق المطلوب بخير وسلامة وسرور..
"واذقني حلاوة الصنع فيما سألت"
قصدت الرضا من ال محمد صلى الله عليه وآله.. كنت الهج بذكره ليل نهار، اشتاق إليه ايما اشتياق، اتذكر نفحات كانت تغمرني في فضاء تلك الصحون الكبيرة الكثيرة المهيبة، في طريق دخولي المس جميع الحيطان والاحجار وامرر يدي وأُلامِس حتى الهواء، "يا بن سمي الكليم جئتك أسعى والهوى مركبي..".. تخالط كياني كلمات: "اللهم صل على علي بن موسى الرضا المرتضى.." وهي ترج هواء ومساحات صحون المرقد المقدس ومناراته العظيمة.. وتهز أعماق وجداني كلمات "الصديق الشهيد.."..
استأذنت الدخول ومشيت متوجها إلى مرقده الشريف في صحراء ذلك الصحن الكبير.. خائفا مترددا كمن يقدم رجلا ويؤخر اخرى، ابث شكواي.. في طريقي كانت سجادة منفردة، جلست بضيافته مستجديا، وقدمت قائمة أعمالي.. ذنوبي، خطاياي، اخطائي، اهوائي وغفلتي.. كان توسلي أن يبدل سوء حالي بحسن حاله، وكأني ضمنت الإجابة ببضع دميعات وحالة من خشوع مدلا على الله فيه، سألته بلسان عراقي فصيح، ختمته بقولي: "ما ادري سويلي چاره" علمت فيما بعد اني لم أكن مؤدبا.. وكأني كنت أريد من الامام أن يتكفل بإصلاحي أو ما هو قريب من هذا المعنى، كنت أريد أن اذوق حلاوة الصنع فيما سألت، اكملت طقوسي الخاصة ومراسيم الزيارة، وكانت هناك تفاصيل أخرى اظنها ليست مهمة..
سيد جواد من الأصحاب "الخيرين" تجمعني معه علاقة عمل في وقت سابق، لم ينقطع عن مواصلتي، بعبارات "صباح الخير" و"جمعة مباركة"، وعبارات أخرى وأحاديث عن الائمة عليهم السلام، كثير من الأحاديث كانت تنطبق على ما اعانيه أو اشعر به..
لقد ارسل لي صاحبي حديثا -مرويا- عن الإمام الرضا عليه السلام: ".. ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه.."
كان الجواب صادما.. لمن يستسهل الأمور.. ويظن أن علاقته وطيدة جدا مع الله والمعصومين، وأنه مسامح بتوسلات يسيرة لا تتجاوز التراقِ، ونزوة خشوع باهته يظنها نفحة غامرة..
لكن هذا لا يعني القنوط والياس والابلاس..
لا بد ولا غنى عن المجاهدة..
أقرأ ايضاً
- الأسطورة وكتابات المؤرخين
- قراءة في كتاب مديرية التسجيل العقاري في ذي قار لمؤلفه ابن خلدون .
- أضواء على التدوين والكتابة قبل الإسلام