حجم النص
بقلم:الأستاذ المساعد الدكتور محمد تقي جون لفظية اللغة العربية تتميز اللغة العربية عن اللغات بأنها لفظية بتفرد لا نظير له. ويقصد باللفظية اعتماد التعبير بها عن الافكار والمشاعر على الألفاظ بشكل كبير. وتتمثل اللفظية بنظامها الصوتي والتركيبي والدلالي: فيتمثل الصوتي باجتماع الأصوات الثقيلة فيها أكثر من أي لغة، مثل: الهمزة والخاء والحاء والقاف والظاء والضاد وهو أصعبها فسميت به (لغة الضاد)(). ويتمثل التركيبي بصعوبة قواعد النحو وتصريف الأسماء وأبنية الأفعال، ومع الصرامة ضعف اطراد القياس. ويتمثل الدلالي بميلها إلى التصوير، والألمان يسمونها (اللغة التصويرية) او (الصورية)؛ فالعرب يتكلمون صوراً كقول الرسول الأعظم () (تلك مضمضة محت ذنوبه)() وقول الإمام علي () عن مروان بن الحكم (أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه)(). ومن أقوالهم الصورية المشهورة: ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويدَ الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ، مفاصل القول، أتى بالأمر من فصِّه، رَ حْب العَطَن، غَمْرُ الرداء، ضيّق المَجَمّ، قلِق الوَضِين، رابط الجأش، بعيد المُسْتَمَرّ، شراب بِأنقع، هو جُذَيْلُها المحكك وعذيقها المرجَّب(). ولا زالت في عاميتنا ظلال من تلك الطبيعة مثل (جعلها بدون ملح) بدل ألحَّ و(برقبتي عائلة) بدل لديّ مسؤولية. ويضاف إلى ذلك كثرة مترادف ألفاظها فللإبل ألف اسم، وللأسد خمسائة، وللحية مائتان، وللحجر سبعون(). وصرامة دلالة اللفظة على معناها، فمثلاً يوجد معنى عام وخاص للفظة؛ فـ(قرِمَ وعامَ) يقالان بشكل عام لمن اشتهى، لكن لا يستعمل قرم إلا مع اللحم ولا عام إلا مع اللبن فيقال قرِمتُ الى اللحم وعِمتُ الى اللبن ولا يقال بالعكس(). ومنها اختصاص كل لون بلفظ يبين شدته لا يستعمل مع غيره فيقولون (أحمر ساطع، وأبيضٌ ناصع، واصفر فاقع، وأخضر نَضِر، واسود فاحم...). وهذه السمات جعلت اللغة العربية تحب العزلة لأنها تضمن لها السلامة، وتمنعها من السهولة التي تقضي عليها بالتدريج. ولأجل ذلك قال الخليفة عمر بن الخطاب () لأهل البصرة " وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل اليهم، كما قال لأهل الكوفة وددت أن بينهم وبين الجبل جبلاً من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم"() حرصاً منه على اللغة() ولكن العرب بخلاف لغتهم كانوا لا يحبون العزلة تماماً، فهم أكثر شعوب الأرض رغبة في الزواج من الأجنبيات كزواج الفاتحين في العراق وإيران والمغرب والأندلس وغيرها. وهذا الاختلاط المفتوح مع الأعاجم أدى إلى فقدان السليقة وظهور العاميات. وقد أشر الشعر الجاهلي لفظية اللغة العربية عبر تقاناته الصعبة مثلها، وهي بمجملها مظاهر لفظية صارمة:الأوزان والقافية الموحدة ونظام البيت الهندسي الشطريني، فكانت أشبه بطوربيدات ضخمة اثبت الزمن إلى اليوم أن اللغة العربية لا تتحرك بالإبداع بدونها، وان كانت صعبة. وحاولت العصور الشعرية التخفيف منها أو إلغاءها، بالموشح والمسمطة والبند وشعر التفعيلة وقصيدة النثر ولكنها لم تكن حاسمة لغلبة طبع اللغة على تطبع التجديد. وقد مثل الشعر الجاهلي عالم اللفظية الساحر، فبيت امرئ القيس: ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعانها كأنه حب فلــــــفلِ() ليس فيه عدا الألفاظ من معنى سوى أن البعر يشبه الفلفل.. ووقف طه حسين أمام قصيدة سويد بن أبي كاهل التي مطلعها: بَسَطَت رابِعَةُ الحَبلَ لَنا فَوَصَلنا الحَبلَ مِنها ما اِتَّسَع() فقال:" وهذا الشعر مألوف تحبه النفس وتستظرفه لسذاجته وجمال لفظه لا لشيء آخر"(). بينما تهتم باقي اللغات بعالم المعنى تعويضاً عن عالم اللفظ الذي لا تتميز به كتميز اللغة العربية، فاللفظ عندها ثوب طارئ على الفكرة وهي الأهم في الإبداع وان كان اختيار اللفظ واستشعاره واستبناؤه ضرورة في كل شعر، إلا أن الاشتغال الأكبر على المعنى. وقد دعا اشتغالها على المعنى إلى خلق عالم جمالي معنوي خلاب يوازي عالم اللفظ، وهو متحقق في الشعر العالمي أجمع. وكان من تداعيات صعوبة العربية واتكائها على اللفظية في مجمل ابداعها، صعوبة ترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى، بينما كانت أدبيات تلك اللغات، لاعتمادها على المعنى والقدرة على إعادة التشكل الإبداعي بأي ألفاظ، سهلة الترجمة. لذا وصلنا شكسبير بكامل تعبيريته، بينما وصل المتنبي إلى أوربا مجرد مؤرخ لبطولات سيف الدولة، وبدلا من أن يستنبطوا صوره الرائعة استنبطوا معلومات حربية من شعره، لان ثلثي شعر المتنبي - لاعتماده على تعبير وجمال ألفاظه - سقط في الترجمة. وقد ذكر الجاحظ صعوبة ترجمة الشعر العربي بسبب تمظهراته اللفظية في قوله:" وقد نُقِلَتْ كتبُ الهند، وتُرجمتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسناً، وبعضها ما انتقص شيئاً، ولو حوّلت حكمة العرب، لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنَّهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئاً لم تذكرْه العجم في كتبهم"(). ولذا نجد شعراءنا الستينيين ومن تلاهم يكتبون بلغة خالية من الجزالة اللفظية، غنية في المعنى والشعرية لتيسير ترجمتها ووصولها إلى العالم ومن ثم اشتهارهم.. ولعل العالم كله أشر حقيقة لفظية اللغة العربية؛ ذكر المقّري: " قيل: إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض: أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب"().
أقرأ ايضاً
- مؤتمرات القمم العربية .. الجدوى والنتائج
- هجرة العقول العراقية والعربية: اسبابها ونتائجها وحلولها
- اللغة العربية.. ومظاهر الاعتداء عليها