حجم النص
علاوي كاظم كشيش
الصورة الأولى:
لا يكون المكان فيها سوى ذكريات متراكمة تعني الآخرين و لاتعني كاتب السطور لأنه لم يكن قد ولد بعد ،ولأن الصورة التقطت في عام 1935 .ولكن روائحها تنبعث هنا وهناك،إنها روائح الماضي والبساطة والبؤس،ربل يقف على الجانب الأيسر،يجره حصانان،على خلفيته رقم (كربلاء6) ومن الطريف أن هذه الأرقام كان يضعها أصحاب الربلات حسب رغبتهم لأنها غير رسمية،عمود كهرباء مترنح،وشناشيل بسيطة،وقنفات وسط الشارع،تدل ملابس الجالسين على أن الفصل كان شتاء،تنعدم السيارات تماما،وربما لا يتسع الشارع لعربتين فقط،وتدل القنفات المرصوفة في نهر الشارع على أن التخطيط الحديث لم يصل بعد.إنه البؤس الذي اكتسبته مدن العراق في تلك المرحلة ، لكن ما يشفع لهذه الصورة ويحملها دلالة مؤثرة وجود المنائر ،واحدة اسطوانية تحمل راية ،وفي الخلفية منارة تشبه منارة العبد في مرقد الحسين إن لم تكن هي،والثالثة منارة مكعبة الشكل غير اسطوانية بطابقين،وتلفت النظر ساعتها المرقمة بالترقيم الروماني،ومن حسن حظ أطفال كربلاء أنهم كانوا يتعلمون الترقيم الروماني وتقسيم الساعة قبل المدارس.وتكسب هذه المنائر ومدخل الرواق قوة مضافة الى المشهد ،توازن ضعف الأبنية في الشارع، وان الأعمدة المتهالكة تنذر بسقوط متوقع،يجعل عين الرائي تذهب سريعا الى مركز الصورة حيث باب قبلة العباس والرواق والمنائر إذ تبرز العمارة الاسلامية والزخرفة على جسد المنارة بوضح وجاذبية مطمئنة.هناك في أعلى الوسط جرس كبير،سيظل حتى نهاية العقد الستيني،يقرع مع الساعة،ولقرعه مذاق شجي في سماء المدينة خاصة في وقت الظهيرة.انها صورة تشير الى البساطة،والى شعرية تتخفى هنا وهناك،تلمحها البصيرة ولا تعبر عنها،إذ يتقاطع الماضي الذي لا يخلو من الألم والصمت،والمستقبل الذي يحبل بالكثير مما سيشهده هذا الباب.
الصورة الثانية:
بعد أربعة عقود من الصورة الأولى،تغلق الباب ساحة صغيرة يقف عليها شرطي المرور،بينما احتفظت المنارات بأماكنها،ولكن السور بدا واضحا،وقد أزيل السوق القديم،وظهرت الشوارع المعبدة،فعلى اليمين طريق يؤدي الى باب العلقمي،وعلى اليسار طريق يستقبل السيارات القادمة من بغداد،ومن باب بغداد تحديدا،بعد أن تنعطف مارة بمحل طرشي الميناء الشهير،الذي كان يقابله محلات باتا للأحذية،الفضاء مفتوح يسمح بأن يتوهج الناظر في ظهيرة ممتعة،وفي ظهيرة قادمة في ربع قرن قادم ستكتب على المساحة الاسفلتية لهذا السور شعارات الانتفاضة في آذار1991 بعد أجريت تطويرات على قشرة السور وأزيلت المحلات الملاصقة له،على يمين الداخل الى الرواق،هناك مكتبة عامرة،حوت ما لذ من الكتب والمخطوطات،كانت ملاذا لتلميذ في الابتدائية يدخل ويتشمم رائحة الكتب القديمة،ويضيع ساعات فيها،ولا يخرج حتى يلقي نظرة على نسخة من القرآن نفيسة كتبت بماء الذهب،كان لها بريق أخاذ كبريق المنائر تحت ظهيرة ماطرة،ترقّص القلب،وكان ديوان بشار بن برد وكتاب الأغاني ألذّ ما صادف التلميذ في هذه المكتبة.
الصورة الثالثة:
مكنسة مركونة على جسد دبابة معطوبة،هو أول ما يجذب عين الناظر،إنها دلالة على الكنس القادم،لا صورة الدكتاتور،ولا الجنود الموهومون بنصرهم،ولا المصور الذي يتجول بكامرته في الصورة،الدبابة المعطوبة تسد مدخل صحن العباس،وهي تخفي وراءها،خرابا أكثر،لا يمكن أن يتجاوز زمن الصورة العشرين من آذار عام 1991،فبعد استباحة المدينة،بيومين،دخلت الى هذا المكان متذرعا بالبحث عن عائلتي،وبقدر ما أحزنني مشهد الخراب هذا،فقد كنت في داخلي أتمزق قهرا على المكتبة،ورعبت مرتين عندما رأيت واجهة الباب وقد أكلتها القذائف بعد قتال دام ثلاثة عشر يوما،لم تكن الدبابة موجودة عندما،عندما وصلت الى المكان الذي تربض فيه، نادتني امرأة مسنة تحمل وليدا مقمطا مغطى بملائة بيضاء منقطة بالزعفران،ظهيرة للولادة والموت والخراب كانت،ولقصيدة تتلجلج على لساني ولا تولد،طلبت مني العجوز أن آخذ الوليد النائم وأدخلها الى صحن العباس،فهذا ما جرت عليه العادة،أمهاتنا يتفاءلن بالعباس ووفائه لأخيه وغيرته،أخذت الوليد وسرت الى الباب،وهناك صاح بي جندي وهو يصوب سلاحه نحوي:ارجع يول.أشرت الى الوليد،فكرر بصوت عال:ارجع يول.قلت له:عندما تذهب باجازة قل لأمك أنك منعت وليدا من زيارة العباس.فخجل قليلا.وقال:أدخله الى نهاية الرواق وارجع بسرعة.دخلت حاملا الوليد،واختلت نظرة عن يميني الى المكتبة كانت بابها مخلوعا وقد تناثرت الكتب على الطاولات والأرض وقد شبعت تمزيقا وبعثرة،وكانت بعض دواليب الكتب قد انكفأ على وجهه.في نهاية الرواق اختلست لقطة كبيرة،فأمامي،كان صحن العباس قد تعرض لتلف كبيرة وخاصة الطارمة الكبيرة،وعن يساري،تضررت الاواوين وامتلأت ساحة الصحن بأشياء غريبة،ثياب مدماة،وقطع ضماد،وظروف اطلاقات فارغة ودواليب وكراسي وعدد عسكرية وخوذ،وعن يميني رأيت بلمحة واحدة أن الجنود قد نصبوا ثلاثة أسياخ وعلقوا بها قوري شاي كما في أفلام الكاوبوي،وشد ما أوجع قلبي أن الحطب كان كتبا ومخطوطات جلبت من المكتبة.صاح بي الجندي: أخرج بسرعة كافي.وخرجت محترقا مثل المخطوطات وقد أفاق الوليد من نومه. لقد بدأ زمن آخر لن تتابعه الساعة الرومانية التي اختفت من منارتها.
الصورة الرابعة:
في ظهيرة غائمة،كل شئ يوحي بالطمأنينة والسكون،وباب العباس يبدو من الجو مثل قلب مفتوح يغري العين بالدخول،وقد حلت مكان الدبابة المعطوبة، سجادة من المرمر تفنن مهندسا شركة أرض القدس في تصميمها،المهندس حميد مجيد والمهندس ضياء مجيد،وقد انتشر الزائرون حول المرقد وهم يسيرون في ذات المكان الذي شهد مصرع الكتب والرجال،ترى هل يعلمون بما شهده هذا الباب،أين اختفى ذلك الألم والقلق والخوف،أين ذهبت الدبابة،والجنود (المنتصرون) والمصور ،ما هي حدود الشعر واللاشعر في هذا المكان،منذ ظهيرات عديدة لم أستطع كتابة هذا المكان،وتحت ظهيرات عديدة ممطرة وساخنة وحزينة وكئيبة،ظهيرات من كل الأنواع،والقصيدة لا تترجل ولا تطير،واليومي يتوهج يوميا وفي كل لحظة،ونحن عاجزون عن التقاطه،وإغوائه الى ساحة الورقة،كم نحن بائسون،إذ يتلاعب اليومي بنا ولا نقدر على صوغه وإعادة انتاجه،هل لأنه واضح أم مؤلم أم غامض.فلهذا الباب أربع بوابات،تتخطى حدوده،وتطير بأجنحة دلالاته المتغيرة.من سيكتب ألمنا الذي رأيناه،في أشد الظهيرات عطشا.
أقرأ ايضاً
- أربع نقاط نيابية لترصين التعليم الأهلي
- مكتب السيستاني ينشر تفاصيل خسوف جزئي يمكن رؤيته في العراق الأربعاء المقبل
- (6) من طلبة السادس الاعدادي :غرفة تجارة كربلاء تكرم طلبة العراق الاوائل من ابناء المحافظة (صور)