حجم النص
كتابة وتوثيق: رواء الجصاني
بعد سبع عجاف من اعوام الغربة المريرة، يقرر الجواهري العودة للبلاد، من براغ، متفائلاً بعهد جديد، كما هي حال الكثير من "المتفائلين" ومن بينهم قوى واحزاب سياسية، وشخصيات وطنية، أستدرجتهم، بغفلة، شعارات العهد البعثي الثاني، بعد تموز 1968 ...
وفي حفل احتفاء مهيب، بعودة الجواهري الى البلاد، نظمه رسميون وثقافيون، في متنزه صدر القناة ببغداد، يلقي الشاعر العظيم "رائية" حاشدة بالرؤى والاراء، والتوثيــــــــــــق والمواقف، دعـــــوا عنكم التنويه والوعظ والتنوير.. وجاء مطلعهـــــــا:
أرحْ ركابَك من أينٍ ومن عثَرِ، كفاكَ جيلانِ محمولاً على خطرِ
كفاك موحشٌ دربٍ رُحتَ تقطعُهُ، كأنّ مغبرّه ليلٌ بلا سَحَرِ
ويا أخا الطير فـي وِرْدٍ وفـي صَدَرٍ، فـي كلّ يومٍ له عُشّ على شجر
عُريانَ يحمل مِنقاراً وأجنحةً، أخفّ مالمّ من زادٍ أخو سَفَر ..
خفّضْ جَناحَيكَ لا تهزأ بعاصفةٍ، طوى لها النّسرُ كشحيه فلم يَطِر
وبحسب متابعاتنا، ورؤانا: مابرحت، تلكم "الرائية" والى اليوم، لم تعطَ حقها المطلوب، ولم تشتهر كما تستحق، برغم انها بانوراما اخرى من فرائد الجواهري، وقد جهد ان تكون عصماء في اتجاهاتها ومحاورها وبنائها، وموسيقاها حتى. وكيف لا ؟ وهي الأولى له أمام من أحبهم، وعناهم : نخباً وأصدقاء ومحبين، كما ومتربصين ومتفيقهين، في بغداد دجلة الخير، بعد تلكم السبعة اعوام من غربة خالها سبعين، بحسب تعبيره ... كما وانها الأولى في أوضاع جديدة شهدتها البلاد، كما اسلفنا، واحتسبها خيراً " ترضيه عقبـــاه" :
يا صورةَ الوطنِ المُهديك مَعرِضُه، أشجى وأبهجَ ما فيه من الصّورِ
غيومَه وانبلاجَ الشمس والقمرِ، وقيظَـه وانثلاجَ الليـل والسـحر
وما يثير الدّمَ الغافـي بـتربتـه، من صحوة الحِقد، أو من غفوة الحذر
والعبقرياتِ لـم تُنهَض ولـم تُثَرِ، والتضحياتِ توالى عن دمٍ هدَر
والناذرينَ نفوسـاً كلّها ثمرٌ، والناهزين لما يُجنى من الثمر
ولكي يفوت الفرصة على النهازين، ويحترز من سموم لؤم واحقاد، واصطياد، باح الجواهري في مطولته ذات المئة والسبعة والعشرين بيتا، وبكل مباشرة، بما يعتلج به صدر صاحبها من عتاب، وغليان نفس، الى جانب شموخ عميم:
طِرْ ما استطعتَ مطاراً عن نقائصها، وعن مرافعها الجُلّى فزِد وطِر...
وكن فخوراً بما أُعطيتَ من دمه، على الحجولِ، وفـي الأوضاح والغرَر
فإن تحدّاك من عليائه ملَـكٌ، يزهو عليك، فقل إنّي من البشرِ ...
أنّى ثوى ذو طماحٍ فهو مغتربٌ، فـي دارةِ الشمسِ، أو فـي هالةِ القمرِ
وفي مناجاة مع النفس اولاً، وليشد الاسماع ويبهرها من جديد، راح شاعر الامتين"يغازل" بلاداً عشقها، متباهياً، ومذكراً من تناسى، او اراد أن يتناسى، تاريخا جواهريا حافلاً، على مدى عقود مديدة:
يا ساحرَ النفس كالشيطان يا وطناً، يُهوى ويُصفى على الويلاتِ والغِيَر ...
حملتُ همّك فـي جنبيّ أصهَرُهُ، فـي لاعجٍ بوقيد الشوق منصهِر
وكنتَ نوريَ فـي ليلي وغربتِه، حتى كأن النجومَ الزرقَ لم تُنرِ...
عَـودٌ إليـك بأقـدامٍ موطأةٍ، على دروبٍ، جراحي فوقَها أثري
تبنّتِ الدمَ من روحي ومن بدني، واستلت الضوءَ من ليلي ومن قمري
وبحسب ما نجتهد ايضا، نرى ان اختيار الجواهري، لبحر وموسيقى، وتفعيلات "أرح ركابك" جاء مقصوداً ليطابق بحر وموسيقى وتفعيلات "يا دجلة الخير" الأشهر ... بل ضمُن فيها العديد من مفرداتها ومعانيها، وحتى بعض مقاطع من أبياتها، في العصماء الجديدة، كما يُبان ذلك بجلاء، للمتابع المقارن، والمقارب:
يا دجلةَ الخـيرِ ما هـانت مطامحنـا، كما وَهِمنا، ولم نَصْدُقْكِ فـي الخبر
ها قد أَقَـلْـنـا على سفحيك يؤنسُنا، لوذ الحمائمِ بين الطين والنّهَر
وعانَقَتْنا حِسانُ النخل واصطفقتْ، جدائلُ السّعفِ المُزهاة لا الشّـعر ...
يا دجـلة الخير ـ والأيّـامُ تَسـحقُنـا، بين البشائرِ نرجوهنّ والنّذر ...
كما وراح الشاعر الخالد يخاطب واهمين، حاولوا ان يَطالوا وقائع وشواهد تاريخية مثبتة... ولم يتوقف في هديره، إلا وهو قد ألجم المقصودين، علانية وتورية، بما يستحقون، فراحوا منكفئيـــن، ولم يُسمع لهم رد مباشـــــر، بل ولا حتى همس يذكر، رداً او تعقيباً، او غيرهما :
يا (دجلة الخير) إنّا بعضُ من عَصَرت، كفّ لوى مِعصميها أيّ معتصر ..
عِفنا لها ناطحاتِ الجوّ فارعـةً، ونازعتنا على ضَحيانَ مؤتجَر
أغرت بيَ السبعةَ الأعوامَ تَحسَبها، هوجَ العواصف تُستعدى على الشجر
لم تدرِ أنّ جذوري غيرُ خائسةٍ، كالجِذرِ منها، ولاعُودي بذي خَور...
يا جازعينَ بأن غامت سماؤهُمُ، وما يزالون في فَينانَ مزدهر
رأيتمُ كيف هان الصبرُ عندكمُ، وكيف كان على اللأواء مصطَبري ...
يا (دجلةَ الخير) نحنُ الممتلين غنىً، بنا انعطافٌ على ملآنَ مفتقِر
ثم راحت " الرائية" الجواهرية السبعينية تشدد وتصعد، متفجرة بغضب عارم، ليس اشتهاءً، وانما بعض تعبير عن بعض هضيمة التاع بها "أبن الفراتين" وحتى من ديار وخلان وصحــــاب :
واللهِ لو أُوهَبُ الدنيا بأجمعِهـا، ما بِعتُ عزّي بذُلّ المترَفِ البطِر
قالوا يظنّون بي شيئاً من الصّغَر، فقلت فيهم وبي شيءٌ من الصَعَر
رثيت للعقرب اللّدغى جِبِلّتُها، لفرط ما حُمّلَت سُمّاً على الإبر
لولا مغبّـةُ ما تَجني ذُنـابَـتُـهـا، لقلتُ: رفقاً بهذا الزاحفِ القَذِر ...
وفي مقطع تالٍ، واخير من"أرحْ ركابك" فاض الجواهري لينور مرة اخرى، ويوشي ببعض هواجس، وتخيلات، بل وربما تحريض إستباقي، دفعاً لمآسِ تنبأ بها، وقد بدأت، وحلت فعلاً، بعد سنوات، بل أشهر معدودات، حين عاد الفاشيون لجذورهم ... ومعروف للجميع ما ساد في البلاد طوال حكمهم البغيض، وحتى سقوطهم الذليل عام 2003 :
ويا قُوى الخيرِ كوني خيرَ صاريةٍ، يُوقى الغريقُ بهـا دُوّامةَ الخطر
نجوى خليصِ هوىً ما انفكّ بينكُمُ، خمسينَ عاماً مَلاء السمع والبصر
لـم يمشِ يوماً إلى تَجْرٍ بمعتركٍ، ولا تدرّبَ فـي حانوتِ متّجِر ...
لُمّي صفوفَكِ يشْمَخْ فـي تلاحمها، مجدٌ يُضاف إلى أمجادك الأُخَر
واستأصلي البؤَرَ السوداءَ، واقتلعي، منها الجذورَ، ولا تُبقي ولا تذري ...
إنّ الدياجيرَ لا تُجلى غياهبُها، إلا إذا التمّ شملُ الأنجم الزّهُر...
ونخبةُ القوم يستهدي بأوجهِها، شعبٌ تخبطَ فـي عمروٍ وفـي عُـمر
ومما نلفت الانتباه اليه أيضاً، بصدد تلكم الرائية العصماء، ان الجواهري قد حرص، شخصياً، على شرح العديد من أبياتها، مقاطع وكلمات وتعابير، وبشكل مباشر... ولعلنا لا نبالغ في القول، ان قصائد الديوان الجواهري العامرة جميعها لم تشهد مثل تلكم الشروح التي تولاها الشاعر العظيم بنفسه، وبتفاصيل مطولة، ولربما بلا ضرورة أحياناً ... ويبدو انه أراد ان يثبت المزيد من المقاصد مما جاء به فحوى وشكل، ومبنى ومعنى "أرح ركابك" المبهرة.
مع تحيات مركز "الجواهـــري" في براغ
www.jawahiri.com
أقرأ ايضاً
- يمكن أن يؤدي إلى العمى.. عدوى شائعة تلازمنا مدى الحياة قد تفتك بنا !
- خطر صحي وراء استخدام بخاخات الأنف دون وصفة طبية
- الأنواء الجوية تعلن موعد انتهاء الحالة المطرية في العراق