حجم النص
بقلم :ماجد ابوكلل
تمثل البطالة مشكلة عالمية ولكن تتباين البلدان في المعاناة من هذه المشكلة , البلدان التي ادركت ان البطالة هي نتيجة لعدة مشاكل وليست لمشكلة واحدة و استطاعت ان تحدد هذه المشاكل بوقت مبكر و وضعت الحلول المتكاملة لها تخلصت من مشكلة البطالة او حجمت هذه المشكلة بحيث لم تعد ظاهرة مقلقة للمجتمع.
حل المشكلات فن اكثر مما هو علم لانه يحتاج الى الابداع وهذا لا يعني انه لا يحتاج الى القواعد العلمية ايضا , لذلك القادرين على حل المشاكل قلة قليلة اقل من القادرين على خلقها و تركها تتعاظم و تتعملق , في العراق اليوم نواجه الفشل في الكثير من السياسات العامة لادارة الدولة العراقية , وسياسة العمل ومكافحة البطالة ليست استثناء من هذا الفشل العام , بسبب فشل مجمل السياسات الاقتصادية في العراق و بسبب موت القطاع الصناعي العام و الخاص نتيجة ازمة الكهرباء و مشكلة اغراق السوق العراقية بالمنتجات الاجنبية و بسبب عدم فعالية السيطرة النوعية و عدم تطبيق التعرفة الجمركية على المستوردات كل هذا و غيره سبب غياب القطاع الخاص عن سوق العمل في العراق لصالح القطاع الحكومي بمختلف صنوفه . مما دفع الحكومة الى التدخل المباشر لتوفير وظائف في القطاع العام للتخفيف من مشكلة البطالة التي لها ابعاد خطيرة على المجتمع كما ان اي حكومة في بلد ديمقراطي تبحث عن ارضاء الناخبين و لن تحصل على هذا الرضا في خضم معاناة الناخبين من البطالة و ان كان توفير هذه الوظائف يجري بطريقة لا تخدم المصلحة العليا للبلد و تحمل خزينة الدولة نفقات على شكل رواتب و اجور زائدة عن الحد و كان الافضل و الاجدى توفير هذه النفقات و انفاقها في مجالها الصحيح كاستثمارات رأسمالية تنشط و تحفز التنمية.
ان اي فرصة عمل توفرها الحكومة يترتب عليها عدد من الامور منها الراتب المستمر الذي تدفعه الخزينة العامة الى هذا الموظف بغض النظر عن كفاءته و انتاجيته و كذلك الزيادات المستمرة في مقدار هذا الراتب و التكاليف الوجستية الاجمالية التي تزداد بمقدار زيادة كل درجة وظيفية جديدة و كذلك الراتب التقاعدي و الحقوق الاخرى التي يستحقها الموظف قانونيا , هذا اذا لم نحسب مقدار الخسائر التي تتحملها الدولة نتيجة عدم الانتاجية و الفساد المالي و الاداري متعدد المستويات و الاهمية الذي يتعاظم في الدوائر المختلفة في حالة وجود قوة عمل غير منضبطة و غير منظمة , نلاحظ اليوم في كثير من الدوائر الحكومية ان الخط البياني للاداء لا يرتفع بنفس نسبة الزيادة في عدد الموظفين في هذه الدوائر بل على العكس في كثير من الاحيان ينخفض لاسباب كثيرة منها نفسية ومنها المشاكل التي تنشأ بين العاملين و ضعف الادارة و عدم المبالاة و الاتكالية و ضعف الرقابة بشكل عام .
من الاجدى و الاجدر بالحكومة عدم اللجوء الى الخيار الاسهل و هو رفع عدد الموظفين سنويا للحصول على رضا الناخبين بل عليها التفكير بالمصلحة العليا للبلد و اللجوء الى وضع خطة علمية لحل مشكلة البطالة بشكل جذري يجنبنا في المستقبل تفاقم هذه المشكلة وقد نصل الى يوم تعجز فيه الحكومة عن توفير فرص عمل جديدة او تعجز فيه الموازنة العامة للدولة عن الايفاء بحقوق العاملين المالية وهذا وارد جدا في بلد يعتمد في اقتصاده على مورد واحد هو بيع النفط الذي تتذبذب اسعاره و تتقلب سوقه لاسباب كثيرة.
اذا ما الذي نقترحه على الحكومة في هذا الصدد :
1- يجب ان ينظر الى سياسة العمل في العراق على انها جزء من مجموعة من السياسات الاخرى التي لا يمكن ان تنفذ منفردة واحدة عن الاخرى بل يجب وضعها على شكل حزمة واحدة تنفذ بشكل متوازي و تراجع كلها معا و تراقب معا وهذه لسياسات هي سياسة التربية و التعليم و سياسة التاهيل و التدريب المهني و سياسة حماية المنتج الوطني و السياسة الضريبية و سياسة تشجيع الاستثمار و السياسة الاكثر اهمية و الاكثر حساسية هي سياسة الضمان الاجتماعي . ان هذه الحزمة من السياسات تؤثر احدها في الاخرى بشكل كبير و اي خلل في احدها سوف يخلق خلل في الاخرى لا محالة و طبعا كل سياسة من هذه السياسات تتفرع الى عدد من البرامج و المشاريع الزمنية التي يجب تنفيذها من مختلف الجهات و الوزارات .
2- في ما يخص سياسة الضمان الاجتماعي التي يمكن ان تؤدي دورا فعالا فيما يخص الحصول على رضا الناخبين الذي تبحث عنه الحكومة ( وهذا من حقها طبعا) و يمكن ان يلعب الضمان الاجتماعي دورا مهما في التخفيف من حدة ظاهرة البطالة و اثارها المؤذية على المجتمع العراقي و بنفس الوقت يجنب الخزينة العامة للدولة الالتزامات طويلة الامد التي تنشأ في حالة التعيين في الوظائف العامة مع عدم الحاجة الفعلية لهذه التعيينات , فمن الافضل ان يخصص راتب الضمان الى العاطل عن العمل لفترة محدودة يتم خلالها تاهيله لدخول سوق العمل او البحث له عن فرصة عمل ملائمة في القطاع الخاص بدلا من تعينه و بالتالي ابعاد اي فرصة قد تاتي مستقبلا ليكون فردا منتجا في المجتمع , صحيح ان المبالغ التي سوف تخصص في هذه الحالة للضمان الاجتماعي ستكون كبيرة و لكنها بالتاكيد ستكون اقل من المبالغ التي تتحملها الخزينة العامة كرواتب و هي تزداد سنويا و رغم زيادتها ( اي الرواتب) فانها لا تحل مشكلة البطالة ولا تخفف منها لكون الاعداد التي تدخل سوق العمل سنويا كبيرة جدا مقارنة بالوظائف التي تعرضها الدولة و بالتالي تبقى اعداد كبيرة من الشباب من الجنسين بلا عمل وبلا راتب ضمان اجتماعي يوفر لها العيش الكريم المؤقت لحين الحصول على فرصة عمل ثابتة.
3- سياسة التربية و التعليم يجب ان يعاد النظر بها ولكل المراحل الدراسية بحيث يتم التركيز على الاستثمار في الفرد من خلال تفعيل اكتساب المعرفة و بناء الفرد ليكون مؤهلا لتحقيق اقتصاد المعرفة وهذا يتطلب استثمار رؤوس اموال كبيرة من قبل الحكومة في قطاع التربية و التعليم قد تصل الى 60% من مجمل الدخل القومي وهذه المبالغ لن تضيع بكل تاكيد بل ستعود على شكل استثمارات صناعية ضخمة خلال فترة 20 عام على اكثر تقدير , يمكن الاستفادة من تجارب ناجحة لدول كثيرة في العالم على رأسها الصين و كوريا الجنوبية و اليابان.
4- سياسة التأهيل و التدريب المهني وهي من اكثر السياسات الفعالة و سريعة التاثير في سوق العمل و التي تنفذ من قبل نفس الجهة التي توفر الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل و هي ملازمة لتوفير الضمان الاجتماعي بمعنى لا يجوز منح راتب الضمان الاجتماعي لشخص ان كان ذكر او انثى اذا لم يكن متعاونا مع المجتمع و مستعدا لكي يؤهل نفسه ليكون فردا منتجا من خلال التدريب الا في حالات خاصة مثل العوق او العجز او بلوغ السن القانونية للتقاعد, ان هذه السياسة تحتاج ايضا الى استثمارات و كوادر مدربة و برامج حقيقة تعكس رؤية جدية و واضحة على ارض الواقع وليس كما يجري اليوم مجرد برامج خجولة يخصص لها الفتات من الخزينة العامة للدولة و يمكن ان نستفيد من تجارب دول اخرى في هذا المجال نجحت في توفير التاهيل و التدريب لمواطنيها العاطلين عن العمل.وهنا لا بد من الاشارة الى التمويل الذي يكون على شكل منح او قروض لتمكين العاطل عن العمل لتأسيس مشروع صغير ولكن بعد تاهيله و تدريبه بشكل لائق و بشرط توفير المساعدة اللازمة له حتى ينجح في مشروعه.
5- سياسة تشجيع المنتج الوطني و التي بغيرها سوف تذهب كل الجهود ادراج الرياح و هي تعمل مع سياسة التعرفة الجمركية على توفير المناخ الملائم للقطاع الصناعي و الزراعي في العراق لكي ينمو و يقف على قدميه و بالتالي توفير فرص العمل للمواطنين , كل المجتمعات في الدول تحرص على ان تكون قادرة على توفير معظم احتياجاتها بنفسها و هذا لاسباب كثيرة منها سياسية و منها اقتصادية باستثناء العراق الذي نرى اسواقه تعج بمنتجات اجنبية تصل حد السخرية مثل استيراد الماء من الكويت و السعودية هذه مشكلة كبيرة حصلت نتيجة وجود جهات متنفذة في الحكومة تستفيد من هذه التجارة و بالتالي تعطل اي قرار او تقدم باتجاه اصلاح الوضع الاقتصادي و الثمن يدفعه المواطن و المجتمع على شكل ظاهرة مؤذية هي ظاهرة البطالة.
6- الكهرباء واحدة من اكبر المعوقات امام التقدم في القطاع الصناعي والزراعي و لا بد من حل هذه المشكلة باسرع وقت ولا سوف تبقى التكلفة لاي انتاج في العراق اعلى من مثيله الاجنبي في دول الجوار.
7- ان سياسة تشجيع الاستثمار لم تنجح لغاية الان في العراق رغم صدور قانون الاستثمار رقم 13 لسنة 2006 و تعديله اكثر من مرة و ذلك لنفس الاسباب المذكرة في الفقرة الخامسة و هي وجود ارادات مضادة من قبل جهات متنفذة في العراق تعمل على تعطيل الاقتصاد العراقي لابقائه سوقا مفتوحا للاخرين.
8- لا بد للحكومة من تطويرالعمل الاداري في العراق , في ميدان التوظيف في القطاع العام او في مجال تشجيع الاستثمار و الا لن يكون هناك حل جذري لمشكلة البطالة , ففي مجال التوظيف في القطاع العام لابد من جهة مركزية تاخذ على عاتقها استلام طلبات الراغبين بالتعيين و ادخالهم الى قاعدة بيانات مركزية و كذلك تقوم باستلام الدرجات الوظيفية المتاحة للتعيين من وزارة المالية ولمختلف الوزارات و الجهات ثم تقوم بتوجيه كل طالب تعيين حسب مؤهلاته الى الجهة المناسبة و يمكن في حالة توفير درجات وظيفية في القطاع الخاص ايضا الاستفادة من قاعدة بيانات هذه الجهة المركزية مستقبلا.
9- في حالة نجاح الحكومة في تنفيذ هذه الخطوات المقترحة يمكن مستقبلا ان تحول الاعداد الهائلة للعمالة الزائدة لدى القطاع العام الى القطاع الخاص من خلال توفير الحوافز وهذا بكل تاكيد سوف يخفف من الثقل على الخزينة العامة بما يساعد على توجيه الموازنة الى القسم الاستثماري بنسبة اكبر.
نظرا لاهمية هذا الموضوع اتمنى من كل المعنين به المساهمة الجادة في نقاشه و الخروج بنتائج تحل المشكلة جذريا و عدم الاكتفاء بحلول ترقيعية تكلف على المدى الطويل اكثر و اكثر.
--
أقرأ ايضاً
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة
- العملة الرقمية في ميزان الإعتبار المالي
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة