- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المرجعية الدينية: مكافحة الفساد بالعمل والممارسة وليس بالكلام المعسول
حجم النص
بقلم:حسن الهاشمي
"مكافحة الفساد" طالما ترددت هذه الجملة على لسان الحكام ووعاظ السلاطين ولكنها صعبة المراس وبحاجة الى تقوى وارادة صلبة غير متوفرة في الكثير ممن يطلقون هذا الشعار، بل بات ومع الأسف الشديد شعارا طالما يتغنى به الفاسدون لتخدير الشعوب وجعلها حطبا لإنارة طريق الفاسدين أطول فترة ممكنة، وهذه المقالة تسلط الضوء على الاسباب الكامنة وراء استفحال آفة الفساد وطرق مكافحتها لتحقيق العدل الاجتماعي في المجتمعات الانسانية، وهي مقتطفات من كلمة ممثل سماحة السيد (السيستاني) دام ظله في لبنان ورئيس جمعية آل البيت (ع) الخيرية الحاج (حامد الخفاف) في مهرجان الصادقين (ع) الشعري السادس المنعقد بيروت / الثلاثاء في ١٧ ربيع الأول ١٤٤٥هـ - 3 تشرين الأول ٢٠23م. تحت عنوان (والله لا يحب الفساد) ويمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
1ـ إن عنوان مهرجاننا لهذا العام مستل ومستوحى من الآية رقم 205 من سورة البقرة: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ).
2ـ وردت لفظة (الفساد واشتقاقاتها حوالي خمسين مرة في القرآن الكريم، وأن مصطلح الفساد وجد مع بدء الخليقة: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) البقرة: ٣٠، وأن فداحة جريمة الفساد بمستوى قتل الناس جميعاً: (من قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة: ٣٢. وان الفساد والنفاق متلازمان: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُ الْخِصَامِ) البقرة: ٢٠٤. وهي نزلت في أحد المنافقين. (راجع التهذيب في التفسير للجشمي ج ١ ص ٨٣٤) والحقيقة ان الفاسدين منافقون في طبعهم، لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، فالفاسد يظهر نفسه صالحاً مكافحا للفساد ورمزاً للإصلاح، وأيقونة للنزاهة، وهو في سلوكه عكس ذلك تماماً، وهذا عين النفاق.
3ـ إن الشرك بالله على عظيم خطره فـ (ِانَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذُلِكَ لِمَن يَشَاءُ) النساء: ٤٨ ، فهو وحده أي الشرك بالله ليس سبباً لإهلاك الناس إذا كانوا غير فاسدين. قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) هود ۱۱۷.
يقول الشوكاني: (والمعنى انه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده، حتى ينضم إليه الفساد في الأرض كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس اشياءهم، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء. (راجع: أسامة كبارة: الفساد في الأرض ص ۳۲ فتح القدير للشوكاني ج ٢ ص٥٣٤).
4ـ يختلف تعريف الفساد باختلاف موضوعاته، فهناك الفساد الأخلاقي والديني والإداري والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والسياسي والثقافي والقضائي والإعلامي، وغيرها، وقد ذكرت عشرات المصادر والدراسات تعريفات لهذه الموضوعات. نقتصر على ذكر واحدة منها: (التنمية الادارية والدول النامية ص ۳۸/د مهدي حسن زويلف/ نشر مجدلاوي/ عمان) ولعل أشمل تعريف اطلعت عليه للفساد هو انه كل سلوك لا يلائم كل ما هو (أخلاقي، قيمي، عقلائي) في سلسلة العلاقات الإنسانية. (الاصلاح ومكافحة الفساد في دولة الامام علي ص ٢٧/ الشيخ خليل رزق).
5ـ يمكن القول أن الفساد الاقتصادي والمالي هو أس كل فساد، وهو الذي يمهد لكافة أنواع الفساد، وهو ما يتبادر في الأذهان عندما تطرح موضوعة الفساد ومكافحته.
6ـ زخرت كتب التراث الروائي، بنقل ظواهر الفساد والتصدي لها والتحذير منها، بما لو جمعت لفاقت على مجلدات ضخام، ما يحار المرء معه من أين يبدأ؟ وماذا يذكر؟ من ذلك ما ورد عن الرسول الأمين (ص) أنه قال: (... مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لي، أفلا قعد في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ فِي بَيْتِ أُمِهِ، حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟. (صحيح البخاري رقم ٢٤٥٧، صحیح مسلم رقم 1832 إلى آخر الحديث). فالهدية للمسؤول حسب حديث الرسول رشوة واضحة وباب فساد.
7ـ الامام علي (ع) يقدم كشفاً بذمته المالية للشعب حين يقول: (دخلت بلادكم بأسمالي هذه، ورحلي وراحلتي هذه، فإن خرجت من بلادكم بغير ما دخلت، فإنني من الخائنين). المناقب ج ۲ ص ۹۸ ، وراجع شرح نهج البلاغة ج ۲ ص ۲۰۰. كما يؤسس لمفهوم: من أين لك هذا ؟ عندما يخاطب أحد أصحابه قائلاً: (فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نَقَدْتَ الثمن من غير حلالك فإذا أنت قد خسرت الدنيا ودار الآخرة). نهج البلاغة الرسالة ٣. إن مفاهيم كشف الذمة المالية، ومن أين لك هذا؟ وغيرها، شرعت كقوانين في عالمنا المعاصر، ولكنها لم تغادر مظانها من ملفات وكتب، إذ بقيت حبراً على ورق، لا تجد طريقها إلى عالم التطبيق في أغلب بلداننا، رغم أنها من أهم مطالب الناس الدائمة.
8ـ إن فداحة الفساد المالي والاقتصادي المفضي إلى غياب العدالة الاجتماعية، البالغة الضرر على كافة المجتمعات، هي التي جعلت علياً (ع) يتشدد في أمره، من عدم محاباة ومداراة القوى السياسية الفاعلة آنذاك؛ للحفاظ على المال العام واسترجاع ما أخذ منه بغير وجه حق، وهو القائل: (والله لو وجدته قد تُزوج به النساء، ومُلك به الإماء لرددته). نهج البلاغة ج ١ ص ٤٦ الخطب ١٥.
9ـ ان الفاسدين يتمترسون بالدين والطائفة والقومية في أغلب الأحيان لتمرير مخططاتهم، أو للإفلات من العقاب ولطالما نجحوا في ذلك للأسف، لقوة تأثير التجييش الطائفي والقومي من جهة، ولضعف الوعي العام من جهة أخرى.
10ـ أفسد من المتمترس بالدين المستأكل بالدين فقد ورد عن علي (ع): (المستأكل بدينه حظه من دينه ما يأكله). تحف العقول / ١٦٠. وعن الإمام السجاد (ع): (..وإياك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً). رجال الكشي ص ١٢٤. وظاهر هذه النصوص انها تخاطب العاملين في المجال الديني أو الذين يعملون تحت إطار شعارات دينية، لأن مُتع الفساد ومنافعه الظاهرية من أخطر أحابيل الشيطان التي يبتلى بها هؤلاء، ومن هنا قال علي (ع): (تخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الاجتهاد). عيون الحكم والمواعظ ج ۱ ص ۲۰۲. وفي رواية أخرى: (من طول الجهاد) الكافي ج ۸ ص ۱۸. وعلى الروايتين، فالمعنى خطير وبالتدبر جدير، إذ لا ينفع مع الفساد كثرة عبادة واجتهاد، كما لا ينفع مع الفساد تاريخ كفاح وجهاد!!.
لهذه الاسباب وغيرها لقد طالب سماحة السيد السيستاني دام ظله مراراً وتكراراً بضرورة مكافحة الفساد، والضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه التطاول على المال العام وأفتى بوجوب احترام القوانين المرعية الإجراء وحرمة تجاوزها. وأفتى بأن المال الذي يستحصله أي موظف أو مسؤول خلافاً للقانون هو سحت حرام، كما ان إهدار المال العام والاستحواذ عليه بل مطلق التصرف غير القانوني فيه حرام. (النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني دام ظله في المسألة العراقية حامد الخفاف، دار المؤرخ للنشر، ص ۱۳۷ وثيقة رقم (۷۷)).
وأدان سوء استغلال السلطة من قبل كثير ممن انتخبوا أو تسنموا المناصب العليا في الحكومة، ومساهمتهم في نشر الفساد وتضييع المال العام بصورة غير مسبوقة وتمييز أنفسهم برواتب ومخصصات كبيرة، وفشلهم في أداء واجباتهم في خدمة الشعب وتوفير الحياة الكريمة لأبنائه.
وانحاز سماحته دام ظله بوضوح إلى الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح في كل مراحله بمواقف معلنة وصريحة، كما انه دام ظله حث الناس في الانتخابات للتمييز بين الصالح والطالح، أي بين من بذل ما يستطيع في خدمة الناس ومكافحة الفساد وبين من لم يعمل إلا لمصلحة نفسه وجماعته. (النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني دام ظله في المسألة العراقية حامد الخفاف، دار المؤرخ للنشر، ص ۲۰۸ ، وثيقة رقم (١١٦)).
لقد حذر السيد السيستاني دام ظله المسؤولين من خطورة الفساد المقنن أي تشريع قوانين تمنح امتيازات غير مستحقة لفئات معينة أو تفتح أبواب الفساد أو تسهله للفاسدين، وهو من أسوأ أنواع الفساد، وقد طالب مراراً بالعمل على تشريع القوانين التي تعزز مبدأ العدالة الاجتماعية، وتلامس هموم الناس وآلامهم وآمالهم ولكن لا حياة لمن تنادي!!.
إن موضوعة الفساد ومكافحته تحظى بأولوية قصوى لدى المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف، وهي الفيصل الأساس في تقييمها لأداء المسؤولين صغاراً كانوا أم كباراً، إدّعوا الانتماء إليها والالتزام بنهجها أم لم يدّعوا، فالعبرة بالعمل والممارسة وليس بالكلام المعسول.
وأخيرا وليس آخرا إن من أهم أخطار الفساد هو انهيار قيمة الانتماء للوطن، وبأن الوطن الذي يعيش فيه ليس وطنه, وإنما وطن الفاسدين والسارقين!! وهذا سيفضي إلى مفاسد عظيمة يصعب حصرها، ليس أقلها التسيب، وعدم الانضباط، وقلة الدافع للعمل، وضعف المبادرة والإبتكار، والاستغلال الوظيفي، وهجرة العقول، والاختلاس من المال العام وإهداره بسوء الاستخدام المتعمد، وتأخير مصالح الناس، وإضاعة حقوق الدولة، والتخريب المتعمد للمنشآت الحكومية وغير ذلك، وهو ما شهدناه في أكثر من بلد يعيش فيه مواطنوه هذا الشعور المحبط.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- الأولويّةُ للمواطنِ وليسَت للحاكم