وقف العالم متفرجا قبل خمس سنوات بينما نهب المتحف العراقي في بغداد وسلب. لقد كان من الواضح جدا ان تكلفة ازاحة صدام ستكون عالية جدا، لكن القلة من الناس ربما تنبأوا بمدى ارتفاع هذه الكلفة فيما يتعلق بعدد القتلى والأرث الثقافي للبلد.
لم اكن مستعدا فعلا للعناوين الرئيسة في الصحف التي كانت تصرخ\" ان متحف العراق قد نهب\"، عندما رجعت ونايل ماك كروغر مدير المتحف البريطاني الى مطار هيثرو من رحلة الى طهران في 13 نيسان 2003. لقد كنت زائرا منتظما للعراق منذ عام 1970 واشرفت في الثمانينيات على بعثات استكشافية آثارية في ثمانية مواقع في شمال البلد. وكونت خلال تلك الفترة الكثير من العلاقات الوثيقة وتملكني حب لهذا البلد المذهل والمضياف والمفعم بالاضطراب ايضا. ولقد عارضت كما هو حال الكثير من الناس، الحرب بشدة، لكن ذلك كان في الاصل مبنيا على اسس انسانية. ولم يتبادر الى ذهني ان قوات التحالف ستكون مهملة الى هذه الدرجة حيال الآرث الحضاري بحيث انها لم تتكلف عناء وضع حراسة عند المتحف عندما اخترقت دباباتها قلب بغداد. ان سماعي لانباء نهب المتحف كان امرا قد صدمني بشدة. ان مصدر رعبي هذا هو امر واضح. فبأعتباري عالماً اثارياً ومؤرخاً، كنت على وعي بما هو على المحك. لكن لماذا يتوجب على اي شخص اخر ان يهتم؟ وذلك لأن العراق يشار اليه بحق على انه مهد الحضارة. فهو المكان الذي اخترعت فيه الكتابة وظهرت فيه اول المدن، كما ان بلاد الرافدين كانت ارض السومريين والبابليين والاشوريين. لقد كان المتحف العراقي واحدا من اغنى المتاحف في الشرق الاوسط اذا لم يكن في العالم كله، ويضم مجموعة عظيمة من كنوز بلاد الرافدين القديمة. ويشاركني اخرون من كل ارجاء العالم احساس الغضب لذلك فانه من الطبيعي ان يستحوذ موضوع ازمة المتحف العراقي على المؤتمر الصحفي الذي عقد في المتحف البريطاني والذي تم الترتيب له في فترة مسبقة للاحتفال بمرور 250 عاما على ولادة المتحف في 15 نيسان. ناضلت تيسا جويل التي كانت وزيرة الدولة للشؤون الثقافية آنذاك، وهي تجيب على الاسئلة الدقيقة عن السبب وراء السماح لهكذا كارثة بالحصول، لكنها لم تمتلك كما لم يمتلك غيرها اية اجابة. والاكثر اهمية هو انه وبينما كان المؤتمر الصحفي منعقدا، تمكنت القناة الرابعة الاخبارية من اجراء مكالمة تلفونية عبر الاقمار الاصطناعية مع صديقي القديم دوني جورج الذي كان يشغل منصب مدير الابحاث في هيئة الاثار العراقية والذي كان في بغداد. وتمكنت من التكلم معه مباشرة اذ كنت اول شخص من خارج العراق يتمكن هو من التحدث اليه. كان دوني ذاهلا فالناهبون والمخربون يجولون في ارجاء المتحف لمدة يومين من دون رادع. وعلى الرغم من عدم وجود اي احد في البناية في ذلك الوقت، فانها كانت غير محروسة وعرضة للنهب. وطلب مني تمرير هذه المعلومات الى الاشخاص المعنيين طالبا مني القدوم الى بغداد بأسرع وقت ممكن لرؤية ما يمكن عمله للمساعدة. وحالما صار معروفا ان دوني يرغب بقدومي الى بغداد، عرضت علي مجموعة من الصحفيين تسهيل رحلتي الى البلد. وانضممت الى القوات كفرد من فريق البي بي سي وانتقلنا بالطائرة في 22 نيسان الى عمان حيث التقينا \"افراد حمايتنا\" وانطلقنا بقافلة سيارات عبر الطريق الصحراوي المؤدي الى بغداد. حالما عبرنا الحدود العراقية واجهتنا مناظر قاسية تذكر بالحرب الاخيرة كالقوافل العسكرية والعجلات المحترقة والجسور المدمرة بفعل القنابل. لم يكن هنالك شيء قد هيأني لمظهر بغداد الذي تغير. وقد رأينا في ضواحي المدينة بنايات مسخمة بعضها كان الدخان لا يزال يتصاعد منها. وكل ما يمكن وصف الشوارع به هو انها كانت مهجورة ، فيما كان هنالك هدوء وسكينة غير حقيقيين، تقاطعه بين الحين والاخر اصوات متقطعة لاطلاق النيران ما يظهر بانه مازالت هنالك بعض المقاومة لاحتلال التحالف. اتجهنا مباشرة الى المتحف وسمح لعجلاتنا بالمرور عبر البوابات المقفلة. خرج كل من دوني ومدير هيئة الاثار الدكتور جبر اسماعيل ومديرة المتحف العراقي الدكتورة نوال المتولي، للترحيب بي. ووافقت على اننا يجب ان ننام على الارض في الحديقة. في الصباح كنا قادرين على البدء بتحقيقنا عن المتحف. لقد كان منظرا يفطر القلب. كنت اعرف مسبقا انه في فترة الاعداد للحرب، ازال القيمون على المتحف اغلب المواد الموجود في صالات العرض الى \" مخزن سري\" داخل الارض تحت المتحف، تاركين وراءهم كل المواد التي كانت لسبب اولاخر صعبة التحريك او تلك التي غفلوا عنها. وقد كانت تلك هي المواد التي سرقت او خربت، بينما دمرت العديد من العارضات الزجاجية بحيث انه كانت هنالك في بعض الاماكن سجادة سميكة من الزجاج على الارض. بالاضافة الى ذلك تم الدخول عنوة الى كل واحد من المكاتب المائة والعشرين في البناية وذلك من خلال عمل فتحة في الباب في اكثر الاحيان. وقد كسحت الاوراق والملفات وبطاقات الفهرست والصور والافلام والحواسيب من على الرفوف الى الارض. وبدا ان النية كانت اضرام النار فيها، لكن ذلك لم يحدث لحسن الحظ. وفتحت كل الخزنات الموجودة في البناية، كما انه كان واضحا ان الدخلاء قد شقوا طريقهم الى غرف الخزن، لكن احداً لم يكن في الداخل عند تلك المرحلة لتقييم مقدار المفقودات. وحصلت الكثير من التخمينات حول اذا ما كانت عملية النهب عفوية او منظمة وحول من الذين يقفون وراءها. وتراوحت النظريات من تورط الموالين للبعث الساعين الى التسبب في اقصى اضطراب مدني، الى تجار آثار دوليين متسترين طالبوا بمواد بعينها تتم سرقتها من اجل شرائها. وبعد مرور خمسة اعوام تبقى هذه الاسئلة غير مجاب عنها، كما ان الوجهة التي وصلت اليها المواد التي نهبت هي امر يجري حوله نقاش ساخن. ان من الواضح وجود سوق سوداء للآثار العراقية، لكن المكان الذي انتهت اليه الاثار ليس معلوما حتى الآن. اليوم التالي كان مليئا بالشك. وكانت المهمة الاكثر اهمية هو اعداد قائمة بالمواد المفقودة وساعدت دوني للقيام بذلك. ومن بين قرابة الاربعين قطعة آثارية مفقودة من صالات العرض، كان هنالك بعض اعظم الكنوز في المتحف العراقي والتي من ضمنها اناء الوركاء ورأس الوركاء اللذان يعود تاريخهما الى قرابة 3100 سنة قبل الميلاد، بالاضافة الى تمثال حجري للملك انتيمينا ملك لكش ويعود الى عام 2400 قبل الميلاد وقاعدة تمثال نحاسية مع كتابات للملك نارام سين ملك آكد 2250 عاماً قبل الميلاد ولوحة منقوشة من العاج تعود للنمرود 800 سنة قبل الميلاد تظهر فيها لبوة تصارع رجلا افريقيا على خلفية من ازهار اللوتس. كان الاميركان حريصين على معرفة عدد المواد التي تمت سرقتها وحاولت جاهدا شرح الصعوبات في اجراء تدقيق في السجلات وتحديد ذلك، فاي متحف كبير في العالم يواجه هكذا كارثة ( من ضمنها المتحف البريطاني) سيواجه صعوبة في اعطاء جواب فوري ولن يقدم جوابه اية فائدة. واجهت الصعوبات نفسها مع فريق البي بي سي الذي كان مقتنعا ان القيمين كانوا بطريقة ما مشتركين فيما حدث حيث ان وجهة النظر هذه قد تم التعبير عنها للأسف في الفيلم الوثاقي الذي عرض لاحقا. لقد كنت- وما ازال- متأكدا انه على الرغم من احتمالية وجود بعض الاهمال، فانه ليس هنالك من دليل على اي انعدام للنزاهة في اي من المسؤولين الثلاثة البارزين الذين كانوا حاضرين في ذلك الوقت. لقد كان من الواضح في تلك المرحلة ان اكثر الامور فائدة ستكون قد لفتت انتباه العالم لمقدار ما حدث. ومن الواضح ان الطريقة الامثل لاحداث ذلك هو ان يرافقني دوني جورج الى لندن والظهور في مؤتمر صحفي تم الترتيب له على عجل في 29 نيسان. وبما ان السرعة كانت امرا جوهريا فقد استأجرنا سيارة ذات دفع رباعي من نوع جي ام سي وسائقها وانطلقنا( من دون افراد الحماية الذين بدا وجودهم امر ضروريا). سريعا ما كنا ننطلق بخفة بسرعة 80 ميلا في الساعة في الطريق السريع المهجور والمفضي الى الحدود الاردنية. وفجأة ومن دون سابق انذار تخطتنا بسرعة سيارة من نوع نيسان واجبرتنا على التوقف. كان في السيارة النيسان اربعة رجال مدججين بالسلاح قاموا بجر السائق الى خارج السيارة ونقلوه الى السيارة الاخرى بينما اندفع اثنان من قطاع الطرق الى سيارتنا. ابعدت السيارتان من الطريق بعد ذلك الى مسافة ميل تقريبا وقام الرجال بتفتيش كل جيوبنا وحقائبنا بخشونة واخذوا اموالنا وجوازات سفرنا. وطرحوا علينا بعد ذلك بعض الاسئلة وعند معرفتهم باننا علماء اثار طالبوا بمعرفة ما اذا كانت لدينا اي لقى آثارية. لم نكن نمتلك اياً منها بالطبع، لكنهم مع ذلك اخذوا حقيبتي ليقوموا بتفتيشها فيما بعد في وقت فراغهم. بعد ذلك دفعونا الى داخل سيارتنا وتملتكني الجرأة لأسألهم اذا ما كنت استطيع استعادة جواز سفري. وبطريقة تثير الدهشة عند استعادة تذكرها، قام قائد المجموعة بالقائه في السيارة لينطلقوا بعيداً. لقد كان من حسن طالعنا ان هذا الحادث وقع قبل ان يبدأ المتمردون باختطاف الغربيين. وجه سائقنا بفرح السيارة باتجاه الاردن وضغط على دواسة البنزين. في النهاية وبعد 12 ساعة اوصلنا الى فندقنا في عمان. اجتذب ذلك المؤتمر الصحفي الذي حضرته تيسا جويل في المتحف البريطاني، اهتماما بالغا وتمكنا من عرض قائمة باكثر المواد اهمية والمطلوب العثور عليها. بعد ذلك قمنا بالترتيب للقيام بجولة تحقق من قبلي وفريق صغير من الاوصياء والقيمين للفترة من الثالث من حزيران وحتى الثالث والعشرين منه العام 2003 . في المتحف العراقي اشغل الوصيان كين ابريتشرد وبيرثي كريستانسن، انفسهما بوضع تقييمات للتصليحات ورسم خطة تصليحات طويلة الآمد، بينما تفحصت بحذر انا وزميلي الخبير بالآثار دومينيك كولون، غرف الخزن وجمعنا معلومات اكثر عما حدث وتحققنا من احتمالية وضع سجل بالموجودات والمفقودات. عند ذلك الوقت صار معروفا ان 16 الف قطعة من ضمنها المجموعة الكاملة التي يمتلكها المتحف من الاختام الاسطوانية المنقوشة، قد تمت سرقتها من غرف الخزن، لكن المشكلة لم تكن تتعلق بالمواد المسروقة فقط. فقد كسحت الكثير من المواد من الرفوف او افرغت من الصناديق وتم سحقها تحت الاقدام. وكانت هنالك مشكلة مع العاجيات الرقيقة من النمرود. فقد كانت تلك ومواد اخرى قيمة الى درجة جعلت من المستحيل تقييم مقدار الضرر ماديا وماليا. وتم اخذنا ايضا للاطلاع على المجوهرات الذهبية المستخرجة من قبور الملكات الاشوريات في النمرود والتي وضعت من اجل حمايتها في سرداب قبو في البنك المركزي. وعلى الرغم من ان هذا القبو قد تم اجتياحه خلال الحرب، فان هذه المجوهرات قد بقيت سالمة نسبيا. ولكن المشاكل لم تكن مقتصرة على المتحف في بغداد. فقد كانت هنالك حاجة للاطلاع عما كان يجري في المتاحف الاخرى والمواقع الآثارية الكثيرة المنتشرة في البلد. اتجهنا في بادئ الامر الى بابل. وعلى الرغم من التواجد العسكري هناك فانه لم يكن تواجدا دائميا جدا، كما انه لم تكن هنالك علامات واضحة على النهب ما عدا الضرر الذي اصاب واحدا من الاشكال المنقوشة على البلاط والتي تصور تنينا على بوابة عشتار بالاضافة الى محل الهدايا الحديث الذي تم احراقه. كانت المشكلة الاكبر هي انه على الرغم من وجود دوني جورج معنا فقد توجب علينا الانتظار خارج بوابة المعسكر لساعتين ونصف في درجة حرارة وصلت الى 45 درجة مئوية. لقد كان الدخول الى المواقع الآثارية مشكلة واجهناها مرة اخرى في موقع اور في جنوب العراق. بعد بابل اتجهنا الى شمال العراق الى مدينة اشور القديمة حيث كنا نعي وجود القليل فقط من التقارير عن وضع الآرث الثقافي في تلك المنطقة. وفي حقيقة الامر كنا اول الاثاريين الغربيين الذين يزورون متحف الموصل بعد النهب ووجدنا ان الشيء نفسه الذي حدث في بغداد قد حدث هنا وفي الوقت نفسه تقريبا في ايام 10 و11 نيسان. وكان ما يؤلم لرؤيته هي بوابات الملك الاشوري اشور نصر بعل التي يعود تاريخها الى 883-859 قبل الميلاد والتي اكتشفها السير ماكس مالوان في منطقة بلوات. فقد تم نزع اغلب البرونز المرصع والمزخرف من الابواب التي خضعت في ما سبق لعملية ترميم وتمت سرقتها. وفي النمرود التي كانت عاصمة للاشوريين كان هنالك القليل نسبيا من الاضرار ويعود الفضل في ذلك من دون شك الى تواجد مفرزة صغيرة من القوات الاميركية. لكننا اطلعنا على بعض المحاولات لازالة بعض القطع من التماثيل الحجرية والتي كانت احداها ناجحة. في نينوى ارتعبنا لرؤية ان السقف الحديدي المتموج لقصر الملك سنحاريب قد تم نزعه من قبل الناهبين تاركين بذلك التماثيل التي تحته عرضة للعوامل الجوية، لكنني علمت ان هذا السقف قد تم استبداله. لقد كانت سفرتنا الى الشمال مشجعة في العموم حيث انها اكدت التكهنات القائلة بان الضرر الذي اصاب الآرث الثقافي هناك ليس كبيرا كما هو الحال في الجنوب. ابتدأ الوضع الامني بالتدهور بقوة منذ صيف 2003 مع نمو التمرد ولم يعد من الممكن السفر بحرية في العراق.وصارت الكثير من المواقع الآثارية صعبة الوصول واصبح من الخطر حتى على العراقيين زيارة مواقع مثل النمرود في الشمال. والنتيجة التي تمخضت عن ذلك هو انه صار من غير الممكن متابعة اي من التوصيات بالتصليحات التي وضعها فريق المتحف البريطاني، كما صار السفر الى العراق يخضع الى الكثير من التقييدات الصارمة. وفي حقيقة الامر لم تأت فرصتي القادمة لزيارة العراق حتى كانون الاول 2004 عندما دعيت الى مدينة بابل. فقد تنامت حالة من عدم الارتياح خلال صيف وخريف 2004 حول حجم المخيم العسكري في مدينة بابل والتأثير الذي من المحتمل ان يحدثه هذا المعسكر على واحد من اهم المواقع في العالم القديم. لقد كانت تلك عاصمة لاثنين من اشهر ملوك العالم القديم وهما حمورابي (1792-1750 قبل الميلاد) والذي قدم اول قانون في العالم ونبو خذ نصر (604-562 قبل الميلاد) والذي بنى الجنائن المعلقة في بابل التي تعد واحدة من عجائب الدنيا السبع. المعسكر المذكور غطى مساحة 150 هكتارا وضم في وقت من الاوقات 2000 جندي. لقد اثار عدد من التقارير والمقالات الانتباه الى هذه المشكلة بالاضافة الى تنامي الشعور بان قوات التحالف قررت في اواخر 2004 اخلاء هذا المعسكر وتسليمه للعراقيين. رغب وزير الثقافة مفيد الجزائري بتقرير من مراقب مستقل يفصل الاضرار التي حدثت بينما كانت بابل تحت الاحتلال العسكري. لذلك فقد دعيت لحضور اجتماع تسليم المهام. في بابل تم اسكاني في غرفة واسعة في قصر سابق لصدام يقع الى جانب بحيرة اصطناعية تحوي جسورا مزخرفة. لقد كانت تجربة غريبة ان تنام في قصـر بني لدكتاتور سابق.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- لاتشتموني بعد سرقة "المالات" !
- لماذا ترتفع درجات الحرارة في العراق؟