- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الغطاء السياسي لسرقة القرن في العراق
بقلم: فراس ناجي
يمكن اعتبار سرقة 2,5 مليار دولار أمريكي بصورة مكشوفة من حساب الأمانات الخاصة للهيئة العامة للضرائب في الدولة العراقية، أوضح دليل على الموت السريري لمؤسسات الدولة وفشلها في إدارة شؤونها المالية وفق القوانين والصلاحيات والضوابط التي حددها نظام المحاصصة والتوافقية.
كذلك تشير هذه السرقة إلى ضعف بنيوي في العمل الرقابي المالي، ما يتيح ليس فقط حدوث مثل هذه السرقات لمبالغ طائلة من المال العام، بل أيضا لتمييع تحديد المسؤولية عن مثل هذه السرقات والتغطية على غيرها ما يؤدي الى الهدر المتواصل لموارد الدولة وفرص التنمية للعراقيين.
المبلغ المسروق لا يمثل فقط هدراً لجزء كبير من موارد الدولة، ولكنه أيضاً فرصة ضائعة لحل مشاكل العراق الخدمية المزمنة. فعلى سبيل المثال كان عقد تصميم وانشاء محطة تحلية لمياه البحر في استراليا تتسع لتوفير احتياجات المياه لنحو 400 ألف شخص وتشغيلها لمدة 20 عاماً لا يتجاوز المليار دولار؛ أي إن المبلغ المسروق كان يمكن أن يوفر احتياجات المياه العذبة لنحو 75% من سكان مدينة البصرة على سبيل المثال، وهي عاصمة العراق الاقتصادية التي تعاني من الإهمال وملوحة وعدم نظافة مياه الشرب.
لقد تمت السرقة عبر صرف 247 صكاً من مصرف الرافدين، حُررت من قبل من الهيئة العامة للضرائب خلال الفترة من أيلول 2021 الى آب 2022، موقعة رسمياً من مخولين في الهيئة لخمس شركات مستحدثة بمبالغ هائلة لا تخصهم أو من مستحقاتهم بأي شكل، إذ تم تأسيس ثلاث من هذه الشركات في تموز 2021 وبرأسمال 700 دولار فقط، ولم تتحاسب ضريبياً أو تمتلك أمانات ضريبية. كما إن هذه السرقة التي تمت على مدى عام تقريباً لم تكشفها إجراءاتُ تدقيقٍ لمطابقة السجلات مع كشوفات الحساب، والتي من المفروض ان تجري شهرياً على حساب الأمانات الضريبية التي تم صرف الصكوك منه. أما مصرف الرافدين فقد سمح بصرف هذه الصكوك بمعدل 10 ملايين دولار للصك الواحد على مدى سنة كاملة لشركات وهمية برأسمال أدنى بدون مسائلة أو إبلاغ للجهات المختصة مثل مكتب غسيل الأموال.
أما رقابياً، فقد وجه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في 2017 ديوان الرقابة المالية للتدقيق مسبقاً في جميع معاملات إعادة مبالغ الأمانات الضريبية – على خلاف الدور التقليدي للديوان في التدقيق اللاحق – بسبب شبهات فساد في حينها. غير إن رئيس اللجنة المالية النيابية السابق هيثم الجبوري قدّم مقترحاً لإنهاء هذا الدور الرقابي للديوان قبل شهرين من عملية الشروع في السرقة على أساس كثرة الشكاوى من التأخير في صرف المستحقات المالية من الأمانات الضريبية. وعلى الرغم من ظلال الشبهات المحتملة في هذا المقترح، إلا أن كلاً من ديوان الرقابة المالية ومكتب رئيس الوزراء أيدّا هذا المقترح، وتبع ذلك موافقة وزير المالية الذي اتخذ إجراءات احترازية عبر تشكيل لجنة وزارية برئاسته لتنظيم مهام عمل هيئة الضرائب والإشراف عليها، مع منع الهيئة من صرف رد الأمانات الضريبية قبل استحصال موافقة الوزير.
إن تعطيل الدور الرقابي الاستباقي لديوان الرقابة المالية بالتزامن مع الغاء مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات بقرار برلماني في 2019 وبدون أي هيئة رقابية بديلة، أخلى الساحة لقيام مؤسسات الدولة بإدارة شؤونها المالية بدون أي دور رقابي مستقل. والنتيجة طبعا كانت التجاوز السافر للضوابط الإجرائية حيث تم صرف مبلغ 2,5 مليار دولار من حساب الأمانات الضريبية لغير مستحقيها وبدون عرضها على وزير المالية.
إن الأدهى من الموت السريري لمؤسسات الدولة وغياب الدور الرقابي الفاعل للإجراءات المالية لهذه المؤسسات، هو تهرب السياسيين العراقيين من المسؤولية عن هذه السرقة عبر إصدار البيانات مدعمة بحبكة من المعلومات المضللة، فيما يقوم الزمن مع فضائح وأزمات أخرى أكبر بفعله السحري في محو الذاكرة الجمعية للمجتمع بما يسمح بإعادة تصدير هؤلاء السياسيين الى أدوار قيادية أخرى في المستقبل أو على الأقل في الإفلات من العقاب والنجاة بما تم تحقيقه من إيرادات على حساب الشعب العراقي.
لذلك يكون الواجب الأهم لقوى التغيير من نواب في البرلمان وأحزاب سياسية وناشطي حركة الاحتجاج في سعيهم لإنهاء حكم التوافقية والمحاصصة الحالي وتأسيس نظام سياسي بديل يمكن أن يعيد الحياة لمؤسسات الدولة، هو المتابعة الحثيثة للتحقيقات الجارية لتحديد جميع المسؤولين عن سرقة القرن هذه في السلطات التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية، وردعهم بقوة القانون وبشدة العقوبة حتى لو تطلب ذلك تغيير القوانين النافذة. ففي حين تسعى القوى المكوناتية إلى تقاسم نهب الوفرة المالية الحالية للدولة العراقية عبر تشكيل الحكومة الجديدة من خلال نفس الآليات التي أدت الى تمكين الفاسدين من تنفيذ سرقاتهم للمال العام من دون محاسبة، يمكن أن تكون محاسبة المسؤولين عن سرقة القرن من أهم الاستراتيجيات المتاحة لقوى التغيير في التصدي لحكومة المحاصصة والتوافقية هذه.
وبينما من حكم المؤكد إن مثل هذه الحكومة ستتغاضى عن ملفي الفساد والسلاح المنفلت، وتركز جهدها على تحقيق إنجازات ولو محدودة في ملفات الخدمات لكسب سكوت الجماهير المحبطة والساخطة، ينبغي لقوى التغيير التركيز على كشف فشل الحكومة الجديدة في هذين الملفين المهمين اللذين يمثلان الأساس الحقيقي لحل الأزمات المستعصية والمتفاقمة في الدولة العراقية.
كما إن من المهم أيضاً لقوى التغيير أن تحدد مسار الحلول لمشكلة تفاقم بؤر الفساد المستشرية في جسد الدولة العراقية، والتي أصبحت يُشار لها شعبياً وحكومياً بل وحتى عالمياً، كما تضمنه التقرير الأخير لممثلية الأمم المتحدة. إن الخلل الرئيس في النظام السياسي الذي أدى الى هذه النتائج هو في ضعف العقوبات الرادعة وغياب الأجهزة الرقابية من جهة، وفي ضعف السلطة التنفيذية السياسية من جهة أخرى.
فلا يكفي أن يلجأ رئيس الوزراء الى "سياسة الصبر والصمت"، وينتظر فسحة من القوى السياسية ليقوم بمهمته أو يتمنى عليها أن تمنحه الحرية في اختيار كابينته الوزارية. كما لا يمكن لوزير المالية أن ينأى بنفسه عن المسؤولية لمجرد انتقاده لمنتسبي وزارته أو لأنه أعطى توجيهات لم يتأكد من تنفيذها لمدة سنة كاملة ونتجت عنها سرقة القرن؛ بل لابد من تغيير النظام السياسي من أجل تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات عبر تقوية السلطة التنفيذية من خلال تفويض شعبي مباشر وحمايتها من تدخل السلطة التشريعية، التي يجب أن تركز على واجباتها التشريعية والرقابية. فأعضاء البرلمان واجبهم تشريع القوانين لمصلحة الشعب الذي انتخبهم، مع مراقبة أداء الحكومة في الالتزام بهذه القوانين، فيما يُفترض أن تعمل الحكومة وجهاز الدولة التنفيذي لإنجاز برنامج شامل بتفويض شعبي عبر انتخاب المحافظين ورئيس الجمهورية – ذي الصلاحيات الموسعة – مباشرة من قبل الشعب.
أما إذا استمر المسؤولون السياسيون في التهرب من المسؤولية والإفلات من العقاب، فهذا يبعث برسالة مفادها أن هذا الفساد السياسي المنفلت وما يتبعه من سرقات للمال العام والهدر هو أمر مقبول، ما يؤدي الى استفحاله وتضاعف السرقات، وما يتبع ذلك من يأس الجماهير بتحقيق العدالة عبر مؤسسات الدولة واحتماليات العنف الثأري وتفكك الدولة والمجتمع.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي