ابحث في الموقع

صوت العقل الذي لا يموت.. عميد المنبر الحسيني في ذكرى رحيله

صوت العقل الذي لا يموت.. عميد المنبر الحسيني في ذكرى رحيله
صوت العقل الذي لا يموت.. عميد المنبر الحسيني في ذكرى رحيله

بقلم: د. طلال ناظم الزهيري

في زمن اجتاح فيه الخطاب الديني التشنج والانغلاق، برز الشيخ الدكتور أحمد الوائلي (1928–2003م) كصوت مختلف، هادئ في نبرته، عقلاني في منطقه، ومتجدد في رؤيته. لم يكن مجرد خطيب على منبر، بل مفكرًا استطاع أن يُقيم جسورًا معرفية بين الفرقاء، ويقدم المذهب الشيعي للعالم الإسلامي بلغة متزنة، حضارية، تنأى عن التوتر الطائفي والانعزال المذهبي.

تميّز خطاب الوائلي بأنه لم يكن دعائيًا ولا شعاريًا، بل واقعيًا في مضمونه، نقديًا في طبيعته، ومبنيًا على أساس عقلاني متين. لم يُقدّم التشيّع كحالة صدام أو صرخة احتجاج، بل كمدرسة فكرية ضاربة بجذورها في القيم الإسلامية الكبرى: العدالة، الحرية، التوحيد، والكرامة الإنسانية. لقد أعاد الوائلي رسم ملامح التشيع في الوعي العام، ليس بوصفه مجرد مجموعة من الطقوس أو المواقف التاريخية، بل كفكر أخلاقي وإنساني متكامل.

لقد اتّسم منهجه النقدي بالشجاعة والإنصاف؛ فلم يكن نقده موجّهًا إلى أصول المذهب أو إلى أئمته وتعاليمه، بل إلى الممارسات التي تسللت إلى بيئته بمرور الزمن، وتحوّلت إلى تقاليد جامدة تُخالف روحه. كان حازمًا في مواجهة الغلو، والتزييف، والانحراف عن جوهر الدين، حتى حين يصدر ذلك من داخل الطائفة التي ينتمي اليها. انتقد الكثير من الممارسات التي رأى أنها دخيلة على المذهب الشيعي، وصرّح غير مرّة أن الخطر الأكبر لا يأتي من الاختلاف مع الآخر، بل من التحريف الداخلي الذي يُلبس الباطل ثوب العقيدة. كان هذا الموقف أحد أبرز أوجه تميّزه؛ إذ مارس نقدًا ذاتيًا بناءً، استهدف الإصلاح من الداخل، لا الهجوم لأجل الهدم.

ولأن صوته كان وعيًا يقظًا وعقلًا حرًا، فقد أثارت مدرسته الفكرية حفيظة دعاة الفتنة والغلو والتكفير، من هذا المذهب أو ذاك. لقد أزعجهم هذا النهج الذي لا يخدم مصالحهم الضيقة، ولا يسترضي غرائزهم، ولا يُرضخ لهيمنتهم. فراح بعضهم يهاجمه ويتطاول عليه، لا من موقع الفكر، بل من منابر الكراهية والتجهيل، حتى تجرأ عليه صبيان العقيدة ومضللو الأمة الذين لا يرون في الدين إلا وسيلة للتسلط أو الاستثمار الطائفي. ومع ذلك، ظل الشيخ الوائلي شامخًا، لا يردّ إساءةً بإساءة، بل يواجهها بالصبر والبيان، وكأنما أراد أن يُثبت أن "الطعن لا يُضير الجبل". لقد كانت تلك الحملات كمن يحاول أن يُغطي نور الشمس بغربال، لأن منطق الحق والعقل لا يُحاصر، وإن حاصرته الأصوات العالية.

لم يكن مشروع الشيخ الوائلي دعوة إلى الانغلاق ضمن المذهب، بل كان نداءً منفتحًا على وحدة الأمة. كان يؤمن أن المذاهب الإسلامية وإن اختلفت في تفاصيلها الفقهية أو رؤاها التاريخية، فإنها تشترك في الأصول الكبرى، وفي قيم الإسلام الجوهرية. من هنا جاء تأكيده المتكرر على ضرورة التقارب المذهبي، ليس من باب المجاملة، بل من منطلق وعي حضاري عميق بفكرة "التكامل المذهبي"، وهي الرؤية التي تفترض أن كل مذهب يحمل جوانب من الفهم، وكل مدرسة فقهية تمثل اجتهادًا قابلًا للنقد والاستلهام، ما دام يُحتكم فيه إلى ضوابط العقل والنص.

لقد رفض الوائلي بوضوح الخطاب الطائفي الذي يُشيطن الآخر المذهبي أو يعزله، وكان يُصرّ على أن الانتماء للمذهب لا يجب أن يكون وسيلة لقطع الجسور مع بقية المسلمين، بل بوابة لتبادل المعرفة والفهم والنقد البنّاء. ولهذا، تجد في خطبه حضورًا واسعًا لأقوال الشافعي والغزالي وابن رشد وغيرهم من رموز المدارس السنية، إلى جانب حضور أهل البيت؛ في توليفة فكرية تجعل المستمع السني يشعر بأن هذا الصوت لا يُقصيه، والمستمع الشيعي يشعر بأن هذا الفكر يُنصفه. لقد تجاوز الشيخ بذلك السقف الضيق للمذهبية، متسلحًا بلغة جامعة ووعي شامل يضع الإسلام أولًا والإنسان أساسًا.

منبر الوائلي لم يكن مخصصًا لأتباع مذهبه فحسب، بل كان منبرًا للمسلمين جميعًا، بل وللإنسان الباحث عن معنى وسط الضجيج الديني والمذهبي. لقد كان نموذجه في الخطابة، وفي اللغة، وفي الأسلوب، وفي الأدب، وفي الحضور، نموذجًا إصلاحيًا بامتياز. أثره تجاوز حدود العراق ليصل إلى الخليج وبلاد الشام، وأثر في جيل من المفكرين والخطباء الذين رأوا فيه رمزًا للتوازن بين الأصالة والمعاصرة.

ومع كل هذا، بقي الوائلي مخلصًا لمنهجه، لا يميل مع الريح، ولا ينزلق إلى التوظيف السياسي، ولا ينجرّ وراء ردود الفعل. خطابه كان فوق اللحظة الآنية، يشتغل على الوعي لا على التأليب، وعلى البناء لا الهدم. ولهذا لا يزال صوته مسموعًا، رغم غيابه الجسدي، لأن منطقه لا يزال يُشكّل حاجة فكرية وأخلاقية في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتقلّ فيه الرؤى.


اليوم، وبعد مرور أكثر من عقدين على رحيله، تبقى مدرسة الوائلي ضرورة. في عصر التشظي والانغلاق، نحن بحاجة ماسة إلى فكرٍ يُعيد ترتيب العلاقة بين المذاهب على أساس الاحترام والتكامل، لا على منطق الهيمنة والإلغاء. بحاجة إلى خطاب عقلاني، يُعيد الثقة بالحوار، ويرتقي بالمذهب من إطار الهوية المغلقة إلى أفق المسؤولية الإسلامية الجامعة.

لقد كان الشيخ أحمد الوائلي أكثر من خطيب بارع، كان مشروعًا ثقافيًا عابرًا للمذهبية، وقيمة معرفية تجسّد أن الإسلام يمكن أن يُعبَّر عنه بلغة العلم، وأدب العقل، وإنصاف الآخر. وفي عالم يتوق إلى المصالحة، تبقى كلماته نورًا في زمن التيه.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!