بقلم: د. أثير ناظم الجاسور
بعد الحرب العالمية الثانية انتهجت القوى الكبرى في صراعاتها سياسة مختلفة عن سابقتها من خلال المواجهة المباشرة بعد أن تم تعزيز هذا الصراع بمفهوم حرب الوكالة من حيث استخدام هذه القوى قوى أخرى متحاربة بالنيابة عنها في سبيل تجنب التورط المباشر في الصراع.
في مرحلة الحرب الباردة وبالرغم من التهديدات المباشرة من قبل طرفي الصراع إلا إن التصلب الذي كان سمة النظام الدولي آنذاك هي من أعطت لهذا التهديد مساحة كبيرة لكن القوى لن تنسحب للمواجهة العسكرية المباشرة لا بل راحت تدعم النزاعات في هذه المنطقة أو تلك بغية تفكيك تحالفات متضادة، وهذا ما جعل من الحرب الباردة حرب تهديد بين القوى الكبرى وسباق تسلح ومشاريع تقسيم واقتتال على مستويات مختلفة من مناطق العالم، هذا إلى جانب الصراع العقائدي الذي حل ليكون واحداً من أساسيات تلك المرحلة الخطرة من عمر النظام الذي أخذ الردع النووي شوطاً كبيراً من تنافساته وتهديداته بالرغم من إن السلاح النووي هو لغرض الردع لا للاستخدام.
عملت القوى الكبرى وحتى تتم الضغط على الأخرى من دعم الدول الحليفة والأطراف من غير الدول من أن تكون القوة التي من خلالها تهدد مصالح الأخرى ولتفرض هيمنة القوى المهيمنة أو المسيطرة، وهذا واضح من خلال الصراعات التي نشبت في مناطق مختلفة من العالم فالقطبية الثنائية التي قسمت العالم لم تكن تحمل المرونة التي تساعد على تحويل الاستراتيجيات الكبرى إلى علاقة تفاهم وتشارك بقدر ما تم طرح جملة من الاستراتيجيات التي تعمل على تعزيز قدراتها في سباق خطر يتم التهديد به بأخطر سلاح اخترعه العقل البشري لما يحمله من قوة تدميرية تقع تبعاته على كل الجنس البشري، ومن خلال وكلاء هذه القوى سواء من الدول أو التنظيمات من غير الدول لعبت القوى الكبرى دوراً كبيراً في تعزيز هيمنتها وسيطرتها على العالم.
بعد الحرب الباردة لم يكن الوضع الدولي مختلف من حيث تحديد المخاطر وتبدل الاستراتيجيات فالقطبية الأحادية التي جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية المتحكم الأول بالقرار العالمي كانت تلعب على صناعة عالم متغير من حيث العدو المُهدد لهذه المهيمنة وكذلك لمستوى اللاعبين الجدد وقدرتهم على مجاراة هذه القوة، فعملية فهم النظام الدولي وقواعده الجديدة لابد أن تكون من خلال التعاطي مع واقع الحدث الأكبر الذي جعل من التحول في النظام العالمي عبارة عن لحظة ممكن أن تغير مجريات الأحداث، ففي الوقت الذي كان التفكير الاستراتيجي الأمريكي يُحدث أدواته كانت الدول الخصم السابقين لا يزالوا يلملمون أشلاء هزيمتهم في منازلة صعبة أسفرت عن تفكك منظومتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، لتفرض القوى الكبرى مفاهميمها ونظرياتها التي لابد ومن الضروري أن تكون تضع القواعد والمبادئ الأساسية التي يعمل بها النظام العالمي الجديد.
اليوم اختلف الوضع العالمي مع صعود قوى منافسة لهيمنة القطب الأوحد وباتت الاستراتيجيات الأمريكية الموضوعة سواء من مؤسساتها الرسمية أو غير الرسمية بحاجة إلى مراجعة بعد أن أصبحت القوى المتنافسة قوى تحاول فرض قرارها ووجودها على مسرح النظام من خلال رفض التوجهات والمشاريع الأمريكية من خلال مواجهة مباشرة تجعلها شريكاً مهما في إدارة هذا النظام، ففصول النظام الجديد بدأت بحرب شرسة في أوكرانيا التي تعد المواجهة المباشرة الأولى بالنسبة للروس وبالوكالة بالنسبة للولايات المتحدة بعد أن مولت أوكرانيا بـ 50 مليار دولار لديمومة هذه الحرب واستنزاف الروس، فالخوف الروسي من المحاصرة والتصغير جعل قادتها اليوم يُهددون بالقدرات النووية التي يمتلكونها وهذه الصفحة الجديدة من الصراع التي فتحتها روسيا ستجعل من الطرف الأخر بقيادة الولايات المتحدة مراجعة فكرة المواجهة التي بالضرورة ستصبح مباشرة، من ثم نحن أمام تساؤل هل ستكون المواجهة بين خصوم الحرب مباشرة؟، وهل ستعمل القوى على النزول للساحة الدولية لتصفية الحسابات السابقة؟.