- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التنمّر الإلكتروني وآثاره على حقوق الإنسان
حجم النص
بقلم:المحامية هبة ماجد الشبلي
نحن نعيش في وسط تغيَّرت فيه المفاهيم، وانقلبت فيه المعايير الأخلاقية، وأصبحت القوة تكمن في تجريح الآخر والنيل من وجوده وكرامته بدلاً من الاعتراف به ودعمه، وتحول الاختلاف الذي يميز البشر إلى وصمة عار، وكَثرُ النقد غير المدروس والتشويه المقصود والمتعمَّد، واندثرت قيم المشاركة واحترام حرية الآخرين. إننَّا نواجه الآن "التنمر" بكل أشكاله؛ فبدلاً من التعامل مع الآخرين برأفة ورحمة ومحبة وطيبة، تحوَّل البشر إلى شخصيات شرسة تتنافس فيما بينها على إيذاء بعضها بعضاً، وتحوَّل الواقع إلى غابة تنعدم فيها ثقافة الحوار والإقناع وقيم التواصل الحقيقية والنية الحسنة، وانقسم المجتمع إلى فئتين: فئة مُتن مِّرة وفئة مُتنمَّرٌ عليها، ولم يسلم أحد من هذه الظاهرة أطفالاً كانوا أم كباراً. في يعدُّ المُتن مِّر شخصاً مريضاً نفسياً، ويعمل على تفريغ اضطراباته النفسيةسلوكاته اللاأخلاقية؛ ممَّا يترك المتنمَّر عليه حائراً بين ما تربى عليه من قيم وأخلاق، وبين نزعته الفطرية إلى استرداد حقه واعتباره المستباحان. لقد خلقنا اللََّّ مختلفين لكي يكون لكل شخص قصته وتحدياته ورسالته وشغفه؛ لكن عوضاً عن الاحتفاء بهذا الاختلاف والتعامل معه على أنَّه نعمة وفرصة، يتحول إلى تهديد حقيقي ونقمة؛ فعندما تصبح السلبية هي العملة المتداولة ضمن وسط أصبح فيه التطاول والتعدي على حدود الآخرين أمراً طبيعياً، ويصبح من السهل والممتع جداً التعرُّض إلى كرامات الناس والمساس بمساحتهم الخاصة وإبداء ك مٍّ من الانتقادات الهدَّامة والتعليقات الساخرة المُح طِّمة، وتتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى منصات للتطاول وهتك الخصوصية وتشويه السمعة واستعراض القوة؛ يدل هذا على وجود أزمة حقيقية في المجتمع. لقد سمحنا للتكنولوجيا أن تحكم قبضتها علينا، وفتحنا المجال للعبثية لكي تكون سيدة الموقف، ولشريعة الغاب لكي تكون المعيار الأساسي للوجود في وسط مجتمع لم يعد يعترف بالقيم معياراً له . و بينما يعتبر الإنترنت أداة قوي ة يمكن استخدامها لربط الاشخاص والمجتمعات المتشابهة م ن الناحية الفكرية، إلا أنها تستخدم ف ي كثير من الأحيا ن كمنصة للتشهير والمضايقة وإساءة معاملة الناس داخل حرم منازلهم. تشير الأبحاث إل ى أن ما يصل إل ى 7 من كل 10 شباب قد تعرضوا للإساءة عبر الإنترنت في مرحل ة ما. غالب ا ما يعام ل مصطل ح "التنمر الإلكتروني" كظاهرة متميزة، ولكنه امتداد للتنم ر الذي يعتبر مشكلة قديمة. فالتنمر يعود إل ى النزعات الاجتماعية الخفية للأحكام المسبقة والتمييز، وغالب ا ما يؤثر عل ى الأشخاص الذي ن يتمتعون بخصائص محمية كالعرق والدين والحياة الجنسية والهوية الجنسانية والإعاقة، أكثر من غيرهم. تقليديا ، كان التنمر يتركز حصري ا في محيط البيئة التعليمية، مع بقاء بيت المرء كملاذ آمن. ولك ن اليوم، من الممكن أ ن يتعرض الشاب للتنمر ليس فق ط في المدرس ة ولكن أيض ا ف ي سيارة العائلة أو ف ي المنزل، وعند تواجده بمفرده في غرفة نومه، وحت ى في حضور الآباء أ و أولياء الأمر دون أن يكون هؤلاء البالغين عل ى علم أبد ا بما يحدث. وبعد أن أصبحت تكنولوجيا الاتصالات تشكل جزء ا لا يتجزأ من الحياة العصرية، فإن بعض الشباب لديهم فرصة ضئيلة جد ا للهروب من الإساءة، ويبق ى العديد منهم في حال ة مستمرة من التوتر والقلق. وبالنسبة لنا جميعا ، فإن هويتنا مقدس ة وهي شي ء نقضي حياتنا كلها في صياغته وتطوره. بالنسبة للشاب، فإن الهوية مزاجية وتمثل شيئ ا لا يزال غير مكتش ف إل ى حد كبير. تأتي تأثيرات الهوية إل ى ح د كبير من الخصائص المحمية، وعلى هذا النحو، يعلق الشباب أهمية كبيرة على هويتهم الدينية والثقافية، أو جنسهم، أو هويتهم الجنسانية، أو إعاقتهم. وغالب ما تستخدم هذه الخصائص للتنمر على شخص في شبكة الإنترنت. ويولد الإيذاء في أغلب الأحيان استياء داخلي لذات المرء. ومن المرجح أن الشاب الذي يعاني من العنصرية على الإنترنت أن يعتبر لونه مشكلة، وقد يرغب في تغيير هذا الجانب من نفسه من أجل تجنب سوء المعاملة. و أنه من المقبول أن يهاجم رقميا أولئك الذين لديهم آراء أو رؤى مختلفة . وهذا يقوض الحق في حرية التعبير الذي ينبغي أن نملكه جميعا ، ويهيئ بيئة يتم فيها قمع حق التعبير عن الذات بالنسبة للآخرين - الذين هم في كثير من الأحيان فئات مهمشة. ويعد التنمّر القائم على المظهر أحد أكثر جوانب إساءة الاستخدام شيوعا في وسائل التواصل الاجتماعي وخارجها.. ففي عالم مزدحم، يسوده هاجس المشاهير، يقع الشبا ب تحت ضغوط هائلة من وسائل الإعلام والمؤثرين والمحتوى الإعلامي الذي يستهلكونه للظهور والتصرف بطريقة معينة. إن قيمة الجاذبية هو شيء يتم تعلمه وإعادة تأكيده باستمرار في سن مبكرة جدا ، لذلك تزداد القضايا مثل اضطراب التشوه الجسمي، واضطرابات الأكل بينما يتطلع الشباب ليبدو وكأنه نسخة معدلة من نماذج القدوة التي يرونها في وسائل الإعلام. في استبيان حديث تبين أن واحدا من كل إثنين من الشباب يرغب حاليا في المضي قدما في استخدام وسائل مثل الجراحات التجميلية لتغيير مظهره. ويقوم الإنترنت بفرض تحديات فريدة فيما يتعلق بسوء المعاملة. فعلى سبيل المثال، لا توجد قيود جغرافية على العضوية أو الاتصال؛ فمن الممكن الآ ن لشخص ما أن يتلقى إساءة تتعدى مجتمعه الواقعي خار ج الإنترنت. وكثير ا ما يقمع التنمّر الإلكتروني كرامة المتلقين بطريقة علنية بشكل لا يصدق، حيث يستطيع الآخرون المساهمة في السخرية وتقييمها من خلال التروّق والرد على المحتوى المسي ء والمشاركة فيه. وفي الحالات الأكثر تطرفا للتنمّر الإلكتروني، تعََرَّض الأمن الشخصي للمتلقين وخصوصيتهم للخطر من خلال المشاركة غير المصرح بها لمعلوماتهم الشخصية، مثل عنوانهم ورق م هاتفهم والتفاصيل الأسرية الحميمة التي تخصهم. وأن لكل شخص الحق في الحريا ت المدنية والعيش حياة كريمة في مساواة مع الآخرين. ومن الأهمية بمكان إعادة صياغة المسألة
لفهم أن الشخص لا يساء إليه أبد ا بسبب عرقه أو جنسه أو دينه أو إعاقته، على سبيل المثال. بل يتعرض الشخص للتنمّر بسبب الموقف السلبي للمعتدي أو ظروفه. ويتمثل الفرق الرئيسي في أن المواقف والظروف يمكن أن تتغير بمستويات مناسبة من الدعم والتعليم. فالهوية ليست شيئا يمكن أن يتغير أو يتأثر بالسلوك المسيء، ولا ينبغي لأحد أن يحاول أبد ا القيام بذلك. ويجب تشجيع الشباب على التعبير عن أنفسهم بحرية، وممارسة حقوقهم في جميع البيئات رقمية كانت أم غير رقمية. ويجب تمكينهم من المساهمة في مجتع ديمقراطي وعالمي من خلال مشاركة أفكارهم وآرائهم دون مهاجمة الآخرين الذين لديهم آراء متباينة. إن العالم الذي يتصف بالعدالة والإنصاف يجب أن يعرف ثقافة الاحترام والتفاهم المتبادل. والعالم المترابط يتطلب وجود معايير اتصال يلتزم بها الجميع. مع وضع هذا الهدف بعين الاعتبار، فلا تزال أمامنا رحلة طويلة. آثار التنمر الإلكتروني يعُّدُّ التنمر الإلكتروني أشَّدَّ صعوبة من التنمر المباشر؛ وذلك لصعوبة اكتشافه من قبل الأهل؛ إذ لا يراقب الأهل عادة حسابات أولادهم الإلكترونية، ولا يكترثون ببقاء . أولادهم أمام شاشات الأجهزة المحمولة لساعات طويلة دون أي رقابة أو انتباه قد يتعرَّض الشبان اليافعون إلى محاولات التنمر الإلكتروني، كأن يكتب أحدهم منشوراً يستهزئ فيه بالضحية ويضرب بكرامتها وينتقدها بإسلوب غير محترم، وير كِّز على نقاط ضعفها ويضخمها ويؤلف روايات مسيئة عنها؛ ممَّا يؤدي إلى آثار نفسية خطيرة وعميقة، حيث تظهر على الطف ل الخاضع إلى التنمر علامات الانطوائية والميل إلى الوحدة والكآبة، وتقل شهيته للطعام، ويضطرب نومه، ويتدنى تحصيله العلمي. والطفل لا يبوح لأهله في أغلب الأحيان عمَّا يعانيه من مشكلات؛ ذلك لأنَّه لم يعتد مشاركتهم له في تفاصيل حياته ولِّخوفه من ردة فعلهم الانفعالية غير المتزنة؛ وفي حال استمرار حالة التنمر دون أن يملك الطفل جرأة الإفصاح عنها، ودون انتباه الأهل إلى العلامات المنذرة بوجودها؛ وستتضخم أعراض الطفل وتزداد كآبته وصولاً إلى التفكير في الانتحار ما هي أسباب التنمر الإلكتروني ؟ 1. التربية الخاطئة: يعتمد الكثير من الأهالي أسلوب التربية القاسي، كأن يستخدموا أسلوب الأمر والنهي مع أولادهم، ويبتعدوا عن أسلوب الحوار والإقناع والتبيان والإيضاح، ولا يسعوا إلى تعزيز إحساس أطفالهم بذاتهم وقيمتهم وحقوقهم، ولا يكترثوا بتطوير مهاراتهم وقدراتهم على التواصل والتعبير عن مكنوناتهم ورفض كل أمر يرونه غير مناسب أو يطيح بقيمتهم وكيانهم؛ ممَّا يسهم في خلق طفل مهزوز الشخصية، وفاقد الثقة بذاته، ومضطرب الهوية، ومعرَّض إلى حالات من التنمر الإلكتروني وغيره. ويؤدي وجود الطفل في بيئة أسرية سلبية مليئة بالصراعات بين الأبوين إلى زيادة احتمال نشوء طفل مضطرب الشخصية وعنيف ولا يؤمن بالعلاقة التكاملية مع الآخر، وقد يلجأ هذا الطفل إلى التنمر كرغبة منه في لفت الانتباه إليه؛ فهو يعاني من حرمان عاطفي شديد أدى إلى بحثه عن الاهتمام بطريقة سلبية. وتربي الكثير من الأسر أولادها على ثقافة العنف، وتعلِّ مهم الدفاع عن أنفسهم عن طريق ممارسة التعنيف والاقتتال، دون وعي منهم أنَّهم يحولون طفلهم بذلك إلى طفل عدواني وسلبي ومُتن مِّر . من جهةٍّ أخرى، يعتقد الكثير من الأهالي أنَّ القوة تكمن في العضلات والاستقواء على الضعيف، وليس في حماية الضعيف ورعايته؛ فيزرعون في نفوس أولادهم هذه القيمة بحجة أنَّهم لا يريدون لابنهم أن يكون ضعيفا؛ً إلاَّ أنَّ القوة الحقيقية تكمن في الإحساس بقيمة الذات وتقديرها، ورفض الإساءة والإهانة بطريقة واضحة وصريحة، ووضع حد للطرف المعتدي دون الانغماس معه في الدونية. 2. عدم الوعي بثقافة الاختلاف: لا يعي الكثيرون منَّا أهمية الاختلافات بين الناس، ولا يستطيعون احترام اختلاف الآخر عنهم، وينظرون إلى هذا الاختلاف على أنَّه عيب، ويحاربون كل شخص يختلف عنهم؛ لكنَّ اللََّّه قد خلقنا مختلفين لكي نكمِّل بعضنا بعضاً، لا لنتنافس على تشويه سمعة بعضنا. 3. غياب دور المدرسة: يؤدي إهمال المدرسين والإدارة والمرشدين النفسيين معالجة شكاوى الطلاب التي يتعرَّضون إليها إلى ازدياد حالات الواردة إليهم بخصوص حالات التنمرالتنمر بشدة ملحوظة؛ وذلك نظراً إلى غياب الرادع لها، وإلى استمرار تدهور الحالة النفسية للطفل الضحية. 4. المفهوم الخاطئ عن الإيمان: يعتقد بعض الناس أنَّ على عاتقهم رفع راية الإسلام عالياً حتى لو لم يكونوا على حق، فيتطرفون في سلوكاتهم، ويبدؤون الانتقاد والتجريح والإهانة تحت راية الإسلام؛ دون أن يعَُوا أنَّ دين الإسلام دين تسامح وستر، وأنَّه يدعو إلى احترام الآخر وتقديس الحريات الشخصية. 5. الإعلام: ساعد الإعلام في نشر ثقافة التنمر من خلال تركيزه على الأمور السلبية والمشكلات وتضخيمها، دون العمل على تقديم بدائل منطقية واضحة وصريحة. وأخيرا، لا تتوقع أن يعالج طفلك التنمر بنفسه، فالتدخل المبكر لحل المشكلة يمنع المشاكل الدائمة، مثل: الاكتئاب، والقلق، وانخفاض تقدير الطفل لذاته. وفي الختام أعلموا أن لكمة على العين، او أنفا نازفا قد يشفى بسرعة، إلا أن الجروح النفسية والعاطفية الناتجة عن التنمر ستستمر مدى الحياة.
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد