بقلم: حسن كاظم الفتال
الصوم هو الإمساك. ويعرفه العلماء والحكماء وأهل الحديث بأنه توطين النفس على الترك وليس بالضرورة أن يكون الإمساك عن الطعام والشراب فقط. لذا فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أيسر ما افترض الله على الصائم في صيامه ترك الطعام والشراب. (إقبال الأعمال ج1 / السيد ابن طاووس الحسني).
ومصداقية تبيان أمارات فضيلة الصوم وإثبات منقبة عمومية منافعه واندماج عزيمة صيام الروح وتحمل الجسد وما يدره ذلك الاندماج على الفرد من آثار وفوائد دنيوية وأخروية يثبتها قول رسول الله صلى الله عليه وآله حين يقول: ما من مؤمن يصوم في شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال أولها يذوب الحرام في جسده والثانية يقرب من رحمة الله عز وجل والثالثة يكون كفر خطيئة أبيه آدم والرابعة يهون الله عليه سكرات الموت والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة والسادسة يعطيه الله تعالى براءة من النار والسابعة يطعمه الله من طيبات الجنة.
وإذابة الحرام في الجسد تعد تزكية وتنزيه وتخليص الجسد وصاحبه من التبعات التي تسوق إلى جرف الهلاكات وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده ثم قال عليه السلام: قالت مريم: (إني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم.
وقال عليه السلام: (وأدنى ما يتم به فرض صومه العزيمة من قبل المؤمن على صومه بنية صادقة وترك الأكل والشرب والنكاح نهاراً وأما يحفظ في صومه جميع جوارحه كلها عن محارم الله متقرباً بذلك كله إليه فإذا فعل ذلك كان مؤدياً لفرضه).
الإمالة إلى الدليل أس الوصول للحقيقة
بعد أن ثبت بالبرهان الملموس وبالأدلة القاطعة إن الصوم رياضة لابد من مزاولتها لترويض البدن والروح والنفس. وأثبتت هذه الرياضة فاعليتها وانعكاس أثرها على ممارسها بشكل واضح وجلي. هذا الأمر جعل الكثير من الداعين إلى توفير السلامة الإجتماعية والأخلاقية للمجتمعات وتأمينها وضمان ديمومتها من خلال العمل على تحسين سلوك الفرد والجماعة. ورغم أن هؤلاء لم ينصاعوا للمفهوم التشريعي للصوم. إنما جذبهم جوهر الحكمة من هذا التشريع وشوقهم المغزى الحقيقي الذي أدى إلى إرضائهم وإعلان قناعتهم للإنتماء إلى جوهر الحكمة هذه. حتى وإن كانوا من قبل لا ينتمون إلى منهاج المدرسة الرمضانية العقائدية ولا يتوافقون مع مبدأ المفهوم التشريعي للصوم وأحكامه، إنما إثبات ما تقدم من منافع الرياضة الروحية التي تقود الرياضي أو المُرَوَّض إلى مرتبة من مراتب الكمال هذا الأمر جعل أولئك يحثون أتباعهم أو مريديهم على ممارسة هذه الرياضة ممارسة فعلية والخروج بنتائج نافعة ومفيدة بعموميتها وشموليتها.
لذا نجد اليوم الكثير من الدعوات قد أطلقت وبحسن نية تحث بعض المجتمعات إلى الاقتداء بالذين كتب الله عليهم الصيام واعتماد العمل بتجربة الصوم وجعله وسيلة من وسائل التربية والتقويم.
ولعل أهم وأبرز أسباب حضهم وتحفيزهم على ذلك الأمر هو ما تنتجه حقيقة صوم الجوارح .تلك الحقيقة التي أخبر عنها منقذ البشرية النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بقوله: من صام صامت جوارحه وصوم الجوارح يعني صونها من ارتكاب المعاصي والآثام أو اقتراف السئيات.
إذ أن كل ما يحدث من مآثم ومعاصي وموبقات فهو ما تقترفه الجوارح أي أعضاء الإنسان التي يمارس من خلالها كل تصرفاته بمسيرة حياته ويؤدي من خلالها كل ما يود عمله وهذا ما تبينه الآيات الكريمات التي أثبتت إسناد الفعل البشري إلى الأعضاء بأمر مباشر فيقول عز وجل:
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ـ النور / 24
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)
وليس أقرب لهذا التوكيد والتبيان من قول الإمام زين العابدين السجاد عليه السلام الذي يدرجه في رسالته الحقوقية وهو يعرِّف فيها كل الحقوق منها حق الصيام على الفرد والذي يصفه بأنه جنة من النار بقوله عليه السلام : وحق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك، ليسترك من النار.
فرضية حق المدرسة الرمضانية
إن حق الصوم المفروض على الفرد الذي بينه الإمام السجاد عليه السلام وشَبَّهَهُ بأنه جنة وحجاب من النار ما هو إلا استعراض لخلاصة منهجية تربوية نفسية روحية دينية تهذب النفوس تتخذ مدرسة روحية تغير أو تُحسِن السلوك المتبع ما قبل الدخول إليها وهذا ما يجعل الصائم أن يخرج من مدرسة الثلاثين يوما لشهر رمضان المبارك تماما بغير ما دخل إليها.
وبمقتضى هذه التمامية يثبت الإنسان انتصاره على الذات والهوى والنفس الأمارة بالسوء رافضا المغبونية التي تداهم كيانه سواء بجعله مغلوبا على أمره أو جعل يوميه متساويين لا يختلف أمسه على يومه بلحاظ قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من اعتدل يوماه فهو مغبون ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها).
وإن تحقق المغبونية باعتدال اليومين لدى الفرد عند مرور شهر رمضان وأداء الصيام والقيام فيه بشكل تقليدي بعيدا عن الاكتساب وإشراك الجوارح بالصوم ذلك أمر لعله يؤدي إلى خلع رداء الورع والانسلاخ الروحي أو المعنوي من التقوى. وحين لم يكن الفرد متقيا أي حذرا من مداهمة الموبقات ومواجهة عواصف الهوى الذي يسوق لاقتراف السيئات ومن ثم إلى الخسران. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)).
وعند ذاك لا يتساوق ما تصنعه جوارحه مع خاتمة منطوق الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وليس الإتقاء الا الحذر من الوقوع في شفا جرف الهلكات.