- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
حج البابا.. من الدربونة إلى الزقورة..
بقلم:عادل نذير
لم تثنه كورونا، ولم يرهبه وضعنا الأمني، سعى فوصل، واستُقبل كما يستقبل الأمل بلهفة وزهو، وأُذّن في الناس أن البابا في العراق، مجمع الديانات وثقلها المكاني، وعمقها الحضاري عبر العصور، ثمة أثر مرتفع علامة على الديانة الإبراهيمية الأولى أيقونته الزقورة، وثمة مكان ضيّق يُفضي إلى آخر الديانات وأكملها أيقونته آية الله، فبأي آلاء الدين يبدأ؟!
بدأ من الدربونة، فلم تسع موكبه، بل لم تسع سيارته، فترجّل في مكان لا زيف فيه كما زيّفت أماكن مرّ بها من قبل، فلا ألوان ولا أعلام ولا سجاد أحمر. محطات المكان؛ حمامات وبابان وحارس؛ بعض الحمامات اعتدن المكان فلم يغادرنه، وبعضهن حلّق ربماسترافق إحداهن هدهد نبي الله سليمان. والبابان؛ أحدهما صدئ لم يُصبغ شاهد على براءة المكان من الزيف، والآخر؛ باب الآية الذي لم يرتفع على الأبواب وقد تطال سقفه هامات الداخلين.أما الحارس؛ فحكايته أنّه رجل بين بابين لم يجد مفرًا لسلاحه ولا مخبأ، ولم يسعهُ أن يتوارى عن مهمة أُنيطت به، أو عن ضيف لا بد من استقباله، فاستعان بظهره، ليقدم فروض الحفاوة والسلام.هذه مفاصل محطات دربونة، مشاها الضيف من الباب إلى الباب؛ فكان قاب قوسين أو أدنى من آية الله.
حين ذاك حرص العالم على معرفة وقت لبوثه، فلم يلبث البابا سوى خمس وأربعين دقيقة أخذ منها المصورون ما يكفي لتوثيق الحدث، حتى إذا انجلى، ضجيج الكاميرات، واستتب الهدوء كان بين القداسة والآية شاي وماء وكلمات.
الشاي!بقي شاهدًا على حرارة اللقاء، والماء تعمد به الضيف وشرب منه ما يحيي به كلّ معاني الإنسانية والإيمان، وأما الكلمات؛ فقد سمعها كلها، الكلمات التي حملنها بعض حمامات طرن بين يدي البابا ساعة ترجّله، كلمات كُنَّ سماوات، ذوات علاقة بأبعاد كونية وعالمية ولم يعكسن أفقًا ضيقا كما روج الإعلام لما يمكن أن يند عن اللقاء المرتقب، ولا غرابة فقد سبق حج البابا إلى العراق جو إعلامي لم يدخر وسعًا في التكهن والتخرّص وبث الفتنة بين الإخوة، غير أن الكلمات/ السموات كن بمستوى الآية لا بمستوى المتخرصين، وكان من تلك السموات/الكلمات:- ضرورة أن تحتضن السماء عالما يخلو من (الظلم والقهر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الأساسية وغياب العدالة الاجتماعية وخصوصًا ما يعاني العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة)، هذه العبارة تتضمن مطالب كونية كفلتها السماء للإنسانية في صورتها الفطرية التي أراد الله أن نكون عليها، فنحن بحاجة إلى كون يخلو من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد. كون يُرفع فيه الظلم ويُردع القهر ويحارب الفقر ولا نُكره فيه الناس على دين أو فكر آيدولوجي معين، ولا تُكبت فيه الحريات أو تغيب فيه العدالة الاجتماعية، ولعل في فلسطين مصداقًا لذلك قريب، وإلا فالأمر قد يشمل كثيرًا من الدول البعيدة مثل فنزويلا وماينمار والقريبة مثل سوريا واليمن و...وغيرها من الدول والشعوب المسحوقة بقوى تُسمى عظمى، تعاظمت ترساناتها العسكرية والاقتصادية على حساب فقر واضطهاد وترويع لكثير من الشعوب، تلك القوى التي زينتها ماكنات إعلامية بشعارات الديموقراطية وشعارات حرية التعبير وشعارات حرية اختيار الفكر، وغيرها من الشعارات التي تسقط وتهوي أمام مصالح تلك الدول (العظمى).
وكان من سماوات اللقاء وكلماته، الالتفات إلى الزعامات الدينية وأثرها في مواجهة الفكر الذي تتحرك في ظله تلك القوى، ليس على أساس سياسي أو على أساس عسكري وإنما على أساس روحي، وخطاب معتدل قائم على (تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حرية الشعوب في العيش بحرية وكرامة)، ولأجل ذلك كانلا بد من تضافر الجهود وتوحيد الخطاب الديني أيا كان منطلقه (لتثبيت قيم التآلف والتعايش السلمي والتضامن الإنساني في كل مجتمع مبنيا على رعاية الحقوق والاحترام المتبادل بين مختلف الأديان والاتجاهات الفكرية).
إن هذه الكلمات لا تصدر عن حرص على مذهب أو دين أو فكر وإنما تصدر عن رغبة ووعي وقلب كبير وأفق واسع لاحتضان الآخر بكل تنوعاته على نحو يكفل له حرية الاختيار والعيش بكرامة واختيار الأوطان، وتكافؤ فرص الحياة الكريمة.
وكان من كلمات اللقاء وسماواته التذكير بتاريخ العراق ومكانته، وشمائل شعبه على اختلاف مكوناته، وفي ذلك ما يكفل للمسيحين الذين يمثلهم الضيف أن يعيشوا (كسائر العراقيين في أمن وسلام، وبكامل حقوقهم الدستورية) ولا أدل على ذلك من حرص المرجعية على (حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى في حوادث السنين الماضية، ولا سيما في المدة التي استولى فيها الإرهابيون على مساحات شاسعة في عدة محافظات عراقية ومارسوا فيها أعمالا إجرامية يندى لها الجبين)، حتى إذا أوشك الرجلان أن يفترقا على عهد بينهما وميثاق عمل تتوزع فيه المهام وقفا ليتشبث كلاهما بالآخر، فتمسك الآية بيد القداسة اليمنى وتشبث القداسة بيد الآية اليمنى وكأنهما يتواثقان على أن يكون الخطاب فيه من الرحمة والمحبة والتسامح ما لأجله كانت الأديان، وما لأجله ترضى الرسل.
فارق البابا تلك الدربونة ليفخر بلقاء الآية. ولنا أن نفخر بحجه؛ لأنه يؤشر النواة الحقيقية للإسلام على أصله وفطرته وكونيته.
يمم البابا وجهه شطر الزقورة، وهناك أدّى حجه المنشود وصلاته الرسولية، فرأى طريق الحج ورأى الأشياء الجميلة التي تُذكر بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهناك بدأ الإيمان وبدأ التوحيد من أرض أبينا إبراهيم، وأشار إلى أن الإرهاب والعنف لا يأتيان من الدين، وإنهما عدوان على الدين، واحترام الدين وحريته حقّ أساسي، ولن يكون هناك سلام من دون تعايش سلمي، ولن يكون هناك تعايش من دون ناس يساعد بعضهم بعضًا، صحبه في تلك الصلاة جمع يمثل مكونات العراق وأطيافه.
وبهذا يكون البابا قد حجّ مرتين؛ مرة في الدربونة، ليطوف حول آية الله فيستمع لكلماته بكل ما تمثله من القيم الكاشفة للإسلام في أبعاده السماوية والإنسانية والأخلاقية لينهل منها، ومرة في الزقورة ليطوف حول مكان ما زالت صرخة أبي الأنبياء لها صدى فيه، صرخته يوم ولد وصرخته يوم توسط نارًا أُمرت أن تكون بردًا وسلامًا.
أقرأ ايضاً
- حجية التسجيلات الصوتية في الإثبات الجنائي
- الحجُّ الأصغرُ .. والزِّيارةُ الكُبرىٰ لِقاصِديِّ المولىٰ الحُسّين "ع"
- فلسطين من الحجارة الى الصواريخ