حجم النص
بقلم:أحمد الجنديل
كنتُ صبيا وقتها لم أتقن فك طلاسم الحرف بعد ، ولم أتعلم فن القطف من رياض اللغة ، كنتُ مبهوراً ببريق الحرف وهو يتوهج بالعافية على شفاه أقلام الكبار ، وكانت الأماني تنحصر جميعها في الحصول على لقب شاعر ، لم أكن وقتها أعرف أن الزمن ينقلب على نفسه ، ويصبح هذا اللقب جاهزا بين ليلة وضحاها ، وعندما أزفت ساعة اللقاء بحضور الشاعر الكبير مصطفى جمال الدين ، تسللتُ إلى دار الشاعر المرحوم جميل حيدر حيث يقيم شاعرنا في بيته كلما حط رحاله في مدينته الغافية على صدر الفرات ، كان خجلي يسبقني بالدخول إلى ديوان آل حيدر ، وكانت المرة الأولى التي التقي بها بصاحب ( عيناك واللحن القديم ) ، مددتُ يدي مصافحاً إياه بخجل كبير ، قابلني بابتسامة عذبة أطاحت بخجلي ، قدمني إليه المعلم الجليل جميل حيدر كقلم من الأقلام الواعدة في مجالي المسرح والشعر ، كنتُ ساعتها ارقصُ على نغمات التشجيع وعبارات المديح ، كنت جالسا أمامهما وهما يتحدثان عن الرابطة الأدبية وذكرياتهما ، لا تعنيني الرابطة ومن فيها بقدر ما تعنيني هيبة الشاعر الجالس أمامه ، تسللت أصابعي لأطمئن على وجود القصيدة الراقدة في جيبي ، وعندما طلب مني قراءة ما لدي ، أسرعتُ إلى فك الحصار عن قصيدتي ، نشرتها أمامي ، كان عنوانها ( إرهاصات اليراع المحموم ) ، ارتفع منسوب نرجسيتي ، وبدأتُ أهدر بصوت الحالم الموعود بمستقبل مشرق ، وبعد الانتهاء من إلقاء القصيدة كانت هناك ابتسامة عذبة تحتل شفتي الشاعر ، ابتسامة من طراز آخر تمتزج فيها عاطفة الأبوة مع عطر التشجيع ، وعندما استقامت أنفاسي في صدري ، بدأ بالحديث عن المفردة الشعرية والصورة الشعرية وبناء القصيدة ، قطع حديثه وصول ( تشريب الباميا ) أسرعتُ إلى الخروج إلا أن كرم الشاعر الجميل جميل حيدر منعني من ذلك ، وأصر على تناول الغداء معهم ، ومن يومها أحببتُ ( تشريب الباميا ) وأحببت تواضع الكبار وهم يأخذون بأيدي الأبناء إلى شواطئ المعرفة ، حيث خطورة الحرف ، وجسامة الدور الذي يلعبه المثقف في الحياة ، وأهمية الشهرة عندما تأتي زاحفة إلى المبدع الكبير لا أن يزحف نحوها الصغار بمختلف الأساليب الرخيصة والمبتذلة .
خرجتُ منتصرا من حضرة الشاعر الكبير ، استوعبتُ الدرس الأول ، طلقتُ اليراع المحموم وإرهاصاته ، وعقدتُ القران بين قلمي وبين السنابل المنحنية تواضعا وهي محملة بالخير والعطاء ، وتركتُ ورائي السنابل المرفوعة رغم جفافها وعقمها ونرجسيتها الفارغة .
رحم الله الدكتور الشاعر مصطفى جمال الدين ، فقد كان شاعرا كبيرا ، ومربيا فاضلا ، وإنسانا نبيلا ، ورحم الله الشاعر الرقيق والمعلم المضيء جميل حيدر الذي رسم بصماته المشرقة على أقلام الكثير من الشعراء .
إلى اللقاء .
أقرأ ايضاً
- أيديولوجية التوحش وشريعة الغاب
- جريمة عقوق الوالدين "قول كريم بسيف التجريم"
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود