عباس الصباغ
لم تكن الاشارة التي وجّهها سيد الشهداء (ع) للامة بقوله (انّما خرجت لطلب الاصلاح ) مجرد شعار ثوري مخملي ورومانسي مستهلك يراد منه كسب تعاطف الجمهور معه او جذب المؤيدين المخلصين لتكوين جيش يكون اداة التغيير المنشود من اجل الاصلاح في حال التمكن من تحقيقه واتاحة الفرصة لذلك ، ولكن كانت رسالة (انّما خرجت لطلب الاصلاح) برنامج عمل متكاملا وحملا ثقيلا ناء بكلكله الامام الشهيد لوضع الامور في نصابها ولإصلاح الفساد الشمولي الذي اعتور ليس المنظومة السياسية المتصدرة للقرار فقط بل لكونه استشرى في جميع مفاصل الدولة الاسلامية الفتية واصابها بالشلل، تلك الدولة التي كافح وناضل الرسول (ص) والرعيل الاول من الصحابة (رض) من اجل تأسيسها وترسيخ بذرة الدولة المدنية والحضرية فيها التي تليق بكرامة وانسانية الانسان وهي دولة حقوق الانسان المصانة وحرية التعبير المكفولة ، وعندما احسّ الامام الشهيد ان تلك التضحيات الجسام وتلك الدولة التي توصف بالمدنية توشك ان تذهب سدى في ادراج الرياح ، وكان عليه السلام امام الامر الواقع فإما السكوت والرضوخ وغضّ النظر عمّا ماكان يجري او اعلان الثورة الاصلاحية الكبرى لاقتلاع الفساد من جذوره ،فليس السكوت دائما من ذهب امام خلل مزرٍ اصاب جميع مناحي الحياة ، فلم يكن الانحراف متجسدا في شخص راس الهرم في النظام السياسي القائم آنذاك والذي اختير حسب منهج المحاصصة والعشائرية والمحسوبية المقيت ولم يكن بحسب نظام الكفاءة التي تضع الشخص المناسب في المكان المناسب فالمسالة هي ليست مسالة تغيير اشخاص او وجوه بقدر ماكانت مسالة نُظم وبرامج عمل ودستور اصابها الفساد والخلل العام فكان انحرافا شموليا اصاب قلب الدولة الفتية ، الدولة التي اسسها الرسول (ص) ولم يمض على تأسيسها بضعة عقود يسيرة من الزمن ساهم الخلفاء الراشدون الاربعة (العهد القريب من عاشوراء) على ترسيخ مدنيتها وانسانيتها وحضريتها لتكون امتدادا طبيعيا للدولة الحضرية الناجحة التي خلّفها الرسول ولكن وبعد انتهاء العصر الراشدي باغتيال اخر خليفة له وتغيير صيغة ادارة الدولة والمجتمع الى صيغة اخرى ساهمت بمجيء نظام مغاير تماما كان مخالفا لما سبق مهّد لقيام دولة فاشلة وفاسدة تقوم على غير المبادئ التي قامت عليها دولة الرسول والخلفاء الراشدين الذين استمروا من بعده، دولة تختلف تماما عما سبق فهي تقوم على مبادئ مخالفة لمعايير حقوق الانسان، وعلى اللامساواة واللاعدالة خاصة في توزيع الثروات ، وعلى التمييز والتهميش العِرقي والاثني والقومي وحتى في الجندر ، فلم يعد الناس سواسية كأسنان المشط ولم تعد المفاضلة حسب التقوى (ان اكرمكم عند الله اتقاكم) افضلكم وانفعكم للصالح العام، ورجعت القيم العشائرية والمحسوبيات المستهلكة الى الواجهة فضلا عن ابعاد الكفء عن التصدر في عمله ليحل محله غير الكفء ناهيك عن هدر مبرمج في المال العام فكانت موارد الدولة تنهب وفق نظرية ( انّما السواد بستان قريش ) ، فساد الفقر والاملاق في جميع اصقاع الدولة الاسلامية التي كان اغلبها بلادا وفيرة في الثروات فصارت مجرد بقرة حلوب تدرّ بالخير في خزينة الدولة الفاسدة والفاشلة .
وعندها توضّحت الصورة عند الامام الشهيد بضرورة القيام بالإصلاح الشمولي لمكافحة الفساد الشمولي الذي ضرب جميع هياكل الدولة حتى وان كلّفه ذلك حياته، وهذا ماحصل في عاشوراء فللإصلاح الحقيقي ثمن باهظ يدفعه اصحابه ، وقد ادرك الامام الشهيد ان الاصلاح فكرة حقيقية تنطلق من الواقع وليست فكرة طوباوية وخيالية بعيدة عن الواقع المعاش ، بل ومن الشارع ذاته وليس من صميم الافكار المحبوسة في متون الادبيات او تحت هوامش الشعارات الفضفاضة، كما يجب ان يترجم هذا الاصلاح الى امثلة حية تنبع من صميم المعاناة والحرمان فليس هنالك مثل اكبر واصدق من ان يقدّم الإمام (ع) حياته قربانا لذلك علما ان فرص النجاة كانت مفتوحة وميسّرة امامه لكنه رفضها جميعا مفضّلا المسير في هذا الطريق الموحش الى نهايته المفجعة على صعيد كربلاء .
نستشف مما تقدم ان الاصلاح الحسيني كان برنامج عمل ملموس ولم يكن سفسطة شعاراتية ، شمل جميع مفاصل الدولة عندما وقف بوجه راس اخطبوط الفساد وقال له (لا) المدوية ، ولم يتراجع او يتنازل ومن ثمرات الاصلاح الحسيني سلسلة الثورات والانتفاضات التي اطاحت بالنظام الفاشل والفاسد برمته بعد ان دقّ الامام الشهيد جرس الاصلاح في صبيحة عاشوراء وكان الميدان واسعا في رمضاء كربلاء فاستحالت عاشوراء بزمنكانيتها الى مشروع اصلاحي كبير استشرفه جميع رواد الاصلاح عبر التاريخ وفي جميع انحاء العالم وعلى اختلاف مشاربهم الايديولوجية .
أقرأ ايضاً
- دماء زكية تُحققُ الاصلاح بسفكها
- ما يميز ثورة عاشوراء خمسٌ على الأقل
- البيت الاولمبي العراقي بين التغيير والاصلاح