- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
قبسات نورانية من الأمام موسى بن جعفر(عليه السلام) / 2
بقلم: عبود مزهر الكرخي
الوشاية بالإمام عليه السلام
عمد البعض من أعداء الإمام الكاظم (ع) إلى السعي بالإمام (ع) والوشاية به عند هارون ليتزلّفوا إليه بذلك. من هؤلاء مَن أبلغ هارون بأن الإمام عليه السلام تجبى له الأموال الطائلة من شتّى الأقطار الإسلامية فأثار ذلك كوامن الحقد عند هارون. وفريق آخر من هؤلاء سعوا بالإمام عليه السلام إلى هارون، فقالوا له: «إن الإمام عليه السلام يطالب بـالخلافة، ويكتب إلى سائر الأقطار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه، ويحفّزهم ضد الدولة العباسية»، وكان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيى البرمكي - وقيل بعض أبناء أخوة الإمام عليه السلام، فأثار هؤلاء كوامن الحقد على الإمام عليه السلام.
ومن الأسباب التي زادت في حقد هارون على الإمام عليه السلام وسبّبت في اعتقاله احتجاجه عليه السلام عليه بأنّه أولى بـالنبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم من جميع المسلمين، فهو أحد أسباطه ووريثه، وأنّه أحقّ بالخلافة من غيره وقد جرى احتجاجه عليه السلام معه في مرقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(1)حيث قيل: حج هارون الرشيد، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زائرا له، وحوله قريش وأفياء القبائل، ومعه موسى بن جعفر، فلما انتهى إلى القبر قال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عمي، افتخارا على من حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبة. فتغير وجه هارون وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن حقا (2).
ففقد الرشيد صوابه واستولت عليه موجات من الاستياء حيث قد سبقه الإمام إلى ذلك المجد والفخر فاندفع قائلاً بنبرات تقطر غضباً:
لم قلت إنك أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) منا؟
فأجابه (عليه السلام) بجواب لم يتمكن الرشيد من الرد عليه أو المناقشة فيه قائلاً:
(لو بُعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟
فقال هارون: سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
فانبرى الإمام مبيناً له الوجه في قربه من النبي (صلى الله عليه وآله) دونه قائلاً:
(لكنه لا يخطب مني ولا أزوجه لأنه والدنا لا والدكم فلذلك نحن أقرب إليه منكم). وأراد (عليه السلام) أن يدعم قوله ببرهان آخر فقال لهارون: (هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهن مكشفات؟).
فقال هارون: لا.
فقال الإمام: (لكن له أن يدخل على حرمي ويجوز له ذلك فلذلك نحن أقرب إليه منكم). وكان دليل الإمام (عليه السلام) حجة دامغة أذهل به خصمه ولم يترك له منفذاً يسلك فيه للدفاع عنه، فقد ألبسه ثوب الفشل والخزي وأبان لمن حوله بطلان ما ذهب إليه هارون، فالإمام أولى بالنبي منه وأحق بالخلافة فهو سبطه ووارثه(3).
الرواية الثانية :
كان في طليعة هؤلاء الوشاة يحيى البرمكي وكان السبب في وشايته - فيما يقول الرواة - هو أن الرشيد قد جعل ولي عهده محمد بن زبيدة عند جعفر بن محمد بن الأشعث، فساء ذلك يحيى وأحاطت به هواجس مريرة، وخاف أن تنقضي دولته ودولة ولده إذا أفضى الأمر إلى محمد، وأن زمام الدولة سيكون بيد جعفر، وكان يحيى قد عرف ميوله واتجاهه نحو العلويين وأنه يذهب إلى إمامة موسى (عليه السلام)، فاختلى به وعرفه بفكرته وأن له ميولاً نحو العلويين فسر جعفر بذلك وعرفه بفكرته، ولما علم يحيى ذلك منه سعى به إلى الرشيد فتأثر منه، ولكنه لم يوقع به أي مكروه لأنه تذكر أياديه وجميل آبائه على العباسيين.
ودخل جعفر على الرشيد فوسع له في مجلسه، وجرى بينهما حديث استطابه هارون، فأمر له بعشرين ألف دينار، فغضب يحيى، فلما كان اليوم الثاني دخل عليه فقال له:
يا أمير المؤمنين، كنت قد أخبرتك عن جعفر ومذهبه، فتكذّب ذلك - وهاهنا أمر فيه الفيصل -.
قال الرشيد: ما هو؟
قال يحيى: إنه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلا أخرج خمسه فوجه به إلى موسى بن جعفر، ولست أشك في العشرين ألف دينار أنه وجه خمسها إليه.
قال هارون: إن في هذا لفيصلاً.
فأرسل في الوقت خلف جعفر، فلما انتهى إليه الرسول عرف سعاية يحيى به فلم يشك في أن هارون إنما دعاه في غلس الليل ليقتله، فأفاض عليه الماء واغتسل غسل الأموات، وأقبل إلى الرشيد فلما وقع بصره عليه وشم منه رائحه الكافور قال له:
ما هذا؟
فقال: يا أمير المؤمنين، قد علمت أنه قد سعى بي عندك، فلما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن من أن يكون قد انقدح في نفسك ما يقال علي، فأرسلت إلي لتقتلني.
قال هارون: كلا، ولكن قد أخبرت أنك تبعث إلى موسى بن جعفر من كل ما يصير إليك بخمسه، وأنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار التي وهبتها لك، فأحببت أن أعلم ذلك؟
قال جعفر: الله أكبر يا أمير المؤمنين، تأمر بعض خدمك ليذهب فيأتيك بها بخواتيمها.
فأمر الرشيد بعض خدمه فأتاه بها على ما هي عليه لم يؤخذ منها شيء، فبدا السرور على سحنات وجهه وقال له:
هذا أول ما نعرف كذب من سعى بك إلي، صدقت يا جعفر انصرف آمناً، فإني لا أقبل فيك قول أحد.
فخجل يحيى، وباء بالخزي والخسران، وازداد غيظه وحنقه وأخذ يعمل جاهداً في إسقاط مكانة جعفر وزوال نعمته، فرأى أن يسعى بالإمام موسى(عليه السلام)ليتوصل بذلك إلى النكاية به(4)،
فقال ليحيى ابن أبي مريم: ألا تدلني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟ فقال له: نعم، ذاك علي بن إسماعيل بن جعفر، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج، فلما اجتمع به قال له يحيى: أخبرني عن عمك موسى، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه فقال: عندي الخبر، وحدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين الرشيد فأجابه إلى ذلك فلما سمع الإمام موسى (عليه السلام) بسفره مع يحيى بعث خلفه فقال له: بلغني أنك تريد السفر؟
- نعم.
- إلى أين؟
- إلى بغداد.
- ما تصنع؟
- عليّ دين وأنا مملق.
- أنا أقضي دينك، وأكفيك أمورك.
فلم يلتفت إلى الإمام ووسوست له نفسه وأجاب داعي الهوى فترك الإمام وقام من عنده، فقال (عليه السلام) له: لا تؤتم أولادي، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، وقال (عليه السلام): والله ليسعى في دمي ويؤتم أولادي فقال له أصحابه: جعلنا الله فداك، فأنت تعلم هذا من حاله، وتعطيه!
فقال (عليه السلام): نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله.
وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه:
ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة.
وقيل: إنه قال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب، وإن له بيوت أموال، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار، وسماها (البسرية).
فلما سمع ذلك الرشيد فقد صوابه وأحرقه الغيظ، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه فدخل بيت الخلاء فزحر(5) فيه وسقطت أمعاؤه فأخرج منه وهو يعاني آلام الموت فقيل له: إن الأموال قد وصلتك فقال: ما أصنع بها وقد أتاني الموت. وقيل: إنه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها مع هارون وقد باع آخرته بدنياه ولم ينتفع بها وباء بالخزي والعذاب الأليم(6).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
1 ـ كتاب باب الحوائج موسى بن جعفر. الحاج حسن، حسين. ص83- 84.
2 ـ تأريخ بغداد 13: 31. وفيات الأعيان 5: 309. إعلام الورى: 307. كامل الزيارات: 18. عنه البحار 48: 136 / 9. ورواه في الكافي 4: 553 / 8. عنه البحار 100: 155 / 26. وحلية الأبرار 2: 273. وأخرجه في التهذيب 6: 6 / 3. عن محمد بن يعقوب. وفي الوسائل 10: 268 / 4 عن الكافي والتهذيب. (*)
3 ـ الإمام الكاظم (ع)عند أهل السنة تأليف الشيخ فارس الحسّون ص 18. من منشورات المكتبة العقائدية. مركز الأبحاث العقائدية. كتاب سير أعلام النبلاء. محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. مؤسسة الرسالة
سنة النشر: 1422هـ / 2001م الطبقة الخامسة موسى الكاظم. المسألة السادسة. المكتبة الإسلامية على شبكة إسلام ويب.
4 ـ عيون أخبار الرضا، غيبة الشيخ الطوسي، البحار، المناقب، وقيل: إن الساعي به هو محمد بن إسماعيل.
5 ـ الزحير: استطلاق البطن، حشوة البطن: أمعاؤه.
6 ـ الإمام الكاظم (ع)عند أهل السنة تأليف الشيخ فارس الحسّون ص 7. من منشورات المكتبة العقائدية. مركز الأبحاث العقائدية. الإرشاد 2: 238 و239. التتمة في تواريخ الأئمة: 113. مقاتل الطالبيين: 333. روضة الواعظين 1: 218. الإرشاد 2: 238.