عبد الحميد الصائح
كلما اشاهد رئيس وزراء بريطاني وهو يتصبب عرقا داخل البرلمان، متوترا يحاول اقناع نواب الشعب بتمرير قانون أو تقنين مصاريف أو استحصال موافقة تدخل عسكري أوتبرير حيازة مال شخصي لم يكشف عنه، وكيف يقلّبه النوابُ من حزبه ومن المعارضة على صفيح ساخن من البهدلة. أتخيل رغبة دفينة تتملك هذا الشخص بان يكون في تلك اللحظة ديكتاتورا لايجرؤ أحدٌ على الاعتراض عليه، ديكتاتورا سعيدا بتصفيق الجميع لمايراه وينطق به ويقرره حتى لوكان مايقوله يتعلق بروث الخرفان وأثره في الحفاظ على كرامة الامّة!.
ليس هنالك شخص لايتمنى أن يكون ديكتاتورا.فالديكتاتورية سحر وحرية وسلطة مطلقة لامتعة بعدها،من أجمل مكاسبها أن ماتراه يراه الشعب وماتقوله يقوله الوطن، تخطط وتنفذ وتأمر وتَنهي،بيدِك المُلْك تقرّب من تشاء وتبعدُ من تشاء،تحارِب وتُهزَم دون عقاب، وتُنفق وتَسرق دون حساب،فمامن سياسي حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية يعجبه أن يعترض عليه أحد ويوقف مشاريعه ويدحض حججه ويحاسبه على أخطائه ويحوّلها من أخطاء الى جنايات ثم سمعة تسقطه وتنهي تاريخه السياسي وحضوره الاجتماعي، بل حتى الذين ذكر التاريخ أنهم استقالوا او تنازلوا فانما هم في حقيقتهم هزموا واستسلموا للقانون والديمقراطية وقيم المجتمع وسلطات الدولة الاخرى ولم يكونوا ملائكة، ينتحرون لانهم أخطاوا.
فالديكتاتورية، هذا النظام الهمجي الموروث من سلطة الوحوش والغابات بتواطؤ مع المشعوذين الذين اشاعوا أن الملوك ابناء الله يحكمون باسمه ومعصيتهم معصية له.جعلت من بشر عاديين لا امتياز لهم لا في تجنب الموت ولا في الصبر على جوع ولا في عدم تخليف الفضلات أو المناعة من المرض وتقدم السن جعلت منهم آلهة، وصوّر لهم المنافقون أنهم خالدون وان سلطة الله بايديهم،وهو ماعُرِف في اوربا العصورالوسطى بمفهوم او نظرية (حق الملوك الإلهى) التي تنص على " أن الرب يمنح سلطته للحاكم وان عصيانه ذنب بحق الله،وليس لأي قوة أرضية أن تنازعه في حقه الإلهي،كما لايحق للمحكومين محاكمة الملك ومقاضاته فهذا من شؤون الله". ليظل الانسان العادي مندهشا من عظمة وفخامة اولئك السفاحين الخراتيت الذين خضعت لفؤوسهم وسياطهم الآفاق وجُزّت على اقدامهم الرقاب، حتى ثار عليهم المجانين وغيروا التاريخ وكنسوا زبالة النصوص والخرافات التي ألّهت البشر واسبغت عليهم منزلة القداسة ونزّهتهم عن الاخطاء،من خلال مراحل التنوير وقوة العقل والمنطق والقانون ونظريات الادارة والحكم والحقوق المدنية عبر ثورات خالدة شهدها النصف الثاني من القرن السابع عشرفي بريطانيا وفرنسا واميريكا،انهت تماما سلطة الحاكم الاوحد بامر الله.
إرث الشعوب الحرة هذا هو الذي انتج القيود والضوابط والقوانين التي جعلت من الحاكم موظفا كبيرامحاطا بالاختبارات والتحقق المستمر من مهارته وسيرته ومراقبة هفواته.