- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التعايش السلمي وتصارع الهويات
حجم النص
بقلم عباس عبد الرزاق الصباغ سيوسولوجيا ان التعايش السلمي هو ضرورة وحتمية اجتماعية لفرض الوئام والانسجام الاهلي بين مكونات ومفاصل النسيج الاجتماعي والبناء التحتي المجتمعي لأية دولة من دول العالم كون انه لاتوجد دولة ما تعد نقية او صافية عرقيا او دينيا او مذهبيا او قوميا او اثنيا او غير ذلك، في تكوينها الديموغرافي ومفاصلها الاثنية فلا بد من وجود اخلاط قومانية واعراق اصلية او هجينة او مهاجرة وتجمعات متعاكسة ومتضادة في الاصول المعرفية او الجذور الحضارية. لذلك من غير المستغرب بمكان تعدد الاديان والمذاهب والاجناس والملل والنحل بتعدد التضاريس البشرية لهذه الدولة او تلك وتنوع مناخاتها الديموغرافية وتداخلها مناطقيا ومكانيا وجغرافيا ولا بد من وجود “ آخر” مختلف يشارك الاخرين حياتهم ويشاركونه على اديم الوطن تشاركا سلميا وهذه من البديهيات المسلَّم بها في العالم المتنور والشعوب المتحضرة. وسياسيا فان التعايش السلمي هو ضرورة حتمية ايضا من ضرورات بناء المواطنية لتحقيق آليات الحد الادنى من مقاربات المواطنة وتفعيلا لعقد الاجتماعي لتنظيم العلاقة وتراتب الانساق والوشائج مابين المواطنين أنفسهم وبينهم وبين الدولة وتحقيق الحد المقبول من التواشج ما بين المجتمع الاهلي من جهة والمجتمع السياسي من جهة اخرى. الهويات تعدد بتعدد المكونات وتنوعها واختلافها الاثني والديموغرافي والمناطقي والقوماني،والمتتبع للشأن العراقي يجد ان هناك تعددا واسعا للهويات الرئيسية منها والفرعية وتشعبا وتداخلا فيما بينها وهناك هويات سياسية متنوعة ومذهبية وعرقية وكتلوية ومناطقية وعشائرية واثنية وغير ذلك، والسؤال هو كيف يتحقق التعايش السلمي في ظل تعدد وتضاد وتصارع وتشظي الهويات في مجتمع مثل المجتمع العراقي وفي بلد مثل العراق مع الاخذ بنظر الاعتبار امتدادات بعض تلك الهويات وتفاعلها مع المحيط الجيو ستراتيجي العراقي وارتباطها بالمحاور الخارجية والاقليمية ارتباطا عضويا ومصالحيا بالاستناد الى منظومة من الروابط التاريخية والمذهبية والقومية وغيرها؟ فقد كانت السنوات التي أعقبت التغيير اختبارا حقيقيا لمعرفة مناسيب بيانات التعايش السلمي الأهلي بين افراد المجتمع العراقي بكافة الوان طيفه وجميع مفاصل وهياكل فسيفسائه ذات التراكيب المتعددة والمتنوعة، ولاسيما سنوات المد الطائفي والتحشيد المذهبي والاحتقان السياسي / الحزبوي 2006 ـ 2008 اذ كانت هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق الحديث”بارومترا” حقيقيا لجميع الفعاليات المجتمعية العراقية التي اثبتت جميعها (عدا الشاذة منها) بان التعايش السلمي حقيقة ملموسة وثابتة وجلية للعيان قد تاتي بالمقابل على تضاد شبه تام من حقيقة التعايش السياسي بالمعنى الحرفي للكلمة التي تشي بوجوب التفريق والتمييز ما بين تعايشين : الاول هو التعايش السلمي الاهلي والثاني “التعايش” السياسي فالتعايش الاول هو التعايش السلمي الاهلي نجد انه على درجة عالية من المقبولية في الانسجام والتآلف عكس “التعايش” السياسي الذي تنخرط في انساقه وحيثياته النخب السياسية بكافة اتجاهاتها وتموضعاتها الحزبوية والكتلوية واجندتها وبرامجها السياسية وارهاصاتها الايدلوجية فهو “تعايش” لايمتلك الحد الادنى من الانسجام والتناغم لاسباب تعود بمجملها الى الخلل التأسيسي البنيوي الذي تأسست بموجبه العملية السياسية والى النمطية التوافقية والتشاركية التي على منوالها انتظمت تلك العملية. وبالتالي لم يشهد العراق احتقانا طائفيا حقيقيا ادى (او سيؤدي) الى اندلاع حرب اهلية مدمرة كما يحدث الان على الساحة السورية من كوارث باسم الدين والمذهب كما لم يشهد اصطراعا قومانيا او اصطفافا قومانيا او تخندقا عرقيا او احترابا مناطقيا او شذوذا شوفينيا كما حدث في اماكن كثيرة من العالم خاصة العالم الثالث المليء بالكثير من الالغام الديموغرافية والقنابل العرقية والدينية والمذهبية الموقوتة التي من الممكن ان تنفجر في اية لحظة اذا ماتوفرت العوامل التي تساعد على اشعال فتيل الازمات لاسيما مع وجود الفواعل الخارجية والمفاعيل الداخلية الحاضنة والمؤججة لها وما يوغسلافيا السابقة وبروندي وراوندا الا امثلة يسيرة على عدم الانسجام الاهلي وعدم انجاز التعايش السلمي المبني على قواعد المواطنة الحقيقية، فضلا عن الانجرار وراء الاجندات الخارجية والمشبوهة التي تسهِّل عملية انزلاق وتورط الاطراف المتشنجة والمتخندقة في مستنقعات الحروب الاهلية والاصطراعات التي لايخرج منها اي طرف منتصرا، وهو المنهج الذي يحاول ان يفعِّله الارهاب وذوو الاجندة التي تراهن على تفتيت النسيج المجتمعي في العراق وصولا الى حرب اهلية بعدة مسارات طائفية وقومية وحزبية ليتسنى لها تقسيم العراق (بعد تدميره) والاستحواذ على مقدراته المادية والحضارية والبشرية والرجوع به الى خانة المربع الاول وعصور القرون الوسطى المظلمة. إعلامي وكاتب مستقل [email protected]