حجم النص
بقلم الباحث / مهدي الدهش اللغة هي أداة تستوعب في دلالاتها مساحات واسعة من الفهم السابق واللاحق للكلمات والتعابير التي تحويها، ضمن حقب نشؤها وتطورها، سواء هذه اللغة أو تلك. واللغات فيها من الخصوصية والعمومية، ما يجعلها تُثري المُتعامل معها في جانب المعاني والصور المُتعددة في توصيل الفكرة المراد تصويرها، سواء في هذه الجملة أو هذا المقطع أو ذاك. وهناك من اللغات ما تتسع حتى تُصبح ضميراً حياً وفعلاً ناطقاً، في مُختلف الظروف والأوقات وربمّا الأمكنة أيضا، وبعضها الآخر يضيق حتى يَضيع ويندثر، وتبقى ـ هذه الثانية ـ جزءاً من التراث الماضوي لمن تعامل بها، قابعةً بين صفحات الكُتُب والقراطيس القديمة فقط. ان اللغة بشكل عام تُمثّل نتاج تفاعل واقعي بين أفراد أية مجموعة بشرية، وهذا يقود إلى أن يُغني تفاعل تلك المجموعة ويُطوّرها معرفياً وبالتالي تتطوّر لغة هذه المجموعة تبعاً لذلك. وبمرور الزمن تتحوّل الأشكال الجديدة المُنتجة عبر الزمن السابق إلى جزء مهم من الثقافة المُتراكمة لهذهِ الفئة البشرية، فتتشكّل لها ذاكرة جمعية من تراثها السابق ونتاجها اللاحق. وهنا أصبح لدينا ذاكرة وهي تكثيف وألوانها المُتقاربة والمُتخالفة، عبر مراحل زمنية مُتعاقبة، أنتجها التنوّع القيادي في ذات المجتمع، وكذلك أبلغ شكلاً للحاضر والماضي، وبكل ما يحملان من هموم وآلام وأحلام وتأملات وتراكمات كثيرة سواء سلبية أم إيجابية، وثقافة تتصارع بفروعها وتنوعاتها المُتعددة أنتجتها آليات القيادة نفسها، وكذلك المؤثرات الخارجية كالمحيط مثلاً، ودرجة التفاعل معها وهكذا. هذا بالإضافة لمُتعدد الأسباب والنوازع الداخلية، التي تَصطرع في جنبات الفئة البشرية نفسها. سؤال يُطرح هنا تحديداً، هل الذاكرة يُمكنها أن تسير في مجتمع ما، على خط مُتّصل من دون أن تعتريها فجوات من القطع، أو لحظات من "الاسترخاء القسري" إذا جاز التعبير، وهل يرد وقوع تلك الفجوات في ذاكرة وثقافة المجتمعات؟ الجواب في تقديري: نعم.. يُمكن وقوع ذلك، كيف؟ من خلال حالة الكسل المُتنامي في الذهنيّة الجَمعيّة لهذهِ الفئة البشرية أو تلك، حيث يؤدي التباطؤ للبناء الثقافي لهم، أو الاكتفاء بالموجود، بحيث يُصبحون كالمجترات؛ يُعيدون إنتاج ذات النتاج السابق عند كل خط شروع. شعوراً منهم بحالة من "الاعتزاز الباذخ" حد السذاجة. نتيجة حالة الانغلاق التام الذي تَعيشه هذه المجموعة البشرية، فيبدأ عندهم عصر الأسطورة للنماذج الماضوية شكلاً ولغةً. وهنا تتحوّل تلك "الفجوات المظلمة" فكرياً إلى حالة من الإشباع الذاتي المُتأكسد لديهم، فيتحوّلون هؤلاء القوم إلى ببغاوات تلقينيه ليس إلا. وهذهِ من أخطر الأدوار التي تمر بها الشعوب في حالات الانكفاء أو الانطواء على الذات من دون إعارة أي أهمية لمسألة التواصل مع المجتمعات والأقوام الأخرى، وهي تُشبه حالة الانفصال الجزئي أو الكلّي عَن جسد المجموع التي تسعى لها بعض الأقليّات اليوم أو فيما سبق. علينا أن نمضي لتضييق "الثقوب السوداء" التي تحملها ذاكرتنا الطويلة نسبياً، عِبر زمن ممتد لعشرات القرون مِن عُمر الأرض. لقد ذكرنا فيما سبق عواملاً لهذا التراجع، وهنا أؤشّر لجانبٍ آخر تعليلاً لذلك، لقد فقدنا القدرة على الإنتاج، منذُ الوقت الذي فقدنا فيه القدرة على النقد. فأصبح النقد نتاجاً للنِتاج نفسه، وهنا تقع إشكالية خطيرة في البناء اللغوي، فاللغة تُعطيكَ نصّاً أدبياً بأدوات مُعيّنة، على المُتلقّي أن يُشكّل أدوات جديدة لنقد النص هذا، وفي حالة غياب هذه الآلية، تَسقط العملية الإبداعية برمّتها في مُستنقع التكرار، ويتحوّل أو تتحوّل النصوص إلى حالة أشبه ما تكون بلعبة (الشكواش)؛ فكلّما ضرب اللاعب الكرة إلى الحائط عادة إليه نَفسها دون أي جديد. إذن فالمُعوقات عديدة، والمُشكلة تتعقّد يوماً بعد آخر، وكلّما جازت المراحل زاد الحرج أكثر فأكثر، لوضع حلول جذرية مناسبة. فإذا لم يتحوّل ذات المُثقّف من حالة الاسترخاء الفكري إلى حالة جديدة هي "الثورية الفكرية"، لن نتجاوز أزماتنا ليس الفكرية/المعرفية فحسب بل والسياسية والاقتصادية والتاريخية والنفسية وغيرها.
أقرأ ايضاً
- عودة في الذاكرة.. ماذا فعلنا بعد الديكتاتورية؟
- من الذاكرة الرمضانية الكربلائية .. الجزء التاسع
- من الذاكرة الرمضانية الكربلائية ... الجزء الثامن