- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
وفاة الأمير نايف والنزاع الخفي على الإرث السياسي بين ثلاثة أجيال
حجم النص
كتب عامر راشد
تعدُّ صيانة وحدة الأسرة السعودية الحاكمة واحدة من أسس استقرار سلطتها، إلا أن هذه الأسرة عرفت منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي انقسامات حادة إلى كتل متصارعة، أحدثت متوالية من الأزمات طفت على السطح بين حين وآخر.
حيث نشأت منذ مبايعة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، في تشرين الثاني/نوفمبر 1964 خلفاً لأخيه المخلوع سعود بن عبد العزيز، توازنات بين مجموعة من العائلة الحاكمة -صغيرة نسبياً- تشارك في اتخاذ القرارات، ظلت في حالة صراع مستتر لم يسمح لأي منها باحتكار السلطة، وتمكنت من تأمين انتقال السلطة في شكل سلس إثر مقتل الملك فيصل على يد أحد أفراد العائلة، لكن مبايعة خالد بن عبد العزيز ملكاً، وتجاوز أخيه الأكبر محمد بن عبد العزيز، جرت على قاعدة تناسب قوى بين المجموعات المتنافسة، لم تصمد سوى سبع سنوات.
ففي العام 1982 حين صار الأمير فهد بن عبد العزيز عاهلاً للمملكة، بسط من يسمون بـ"السباعي السديري" - نسبة إلى أبناء الملك عبد العزيز من زوجته حصة السديري- نفوذهم في الحكم، بشغل الأمير سلطان منصب وزير الدفاع والطيران، وتعيين الأمير تركي نائباً له، وتولي الأمير نايف وزارة الداخلية، والأمير سلمان محافظاً للرياض.
وفرض الأمير نايف بن عبد العزيز نفسه بصفته الشخصية الأقوى في السلطة، والممسكة بزمام التوازنات داخل الأسرة الحاكمة، مدعوماً من أشقائه (الأمراء السديريين)، وامتدت صلاحياته من الملف الأمني إلى ملف الإصلاحات السياسية التي وعد بها الملك عبد الله، والشؤون الخارجية والإعلامية، وقضايا الخلافات الحدودية مع دول الجوار، والعلاقة بين الأسرة الحاكمة ورجال الدين السلفيين، الذين يحتفظون بأدوات قوية للتأثير في المجتمع، رغم ما طرأ من انكماش في دورهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة نتيجة التحولات في بنية المجتمع السعودي المرتبطة بـ"عصر النفط".
ويعتقد على نطاق واسع أن ولي العهد الراحل، الأمير نايف، استخدم نفوذه الواسع لكبح الإصلاحات السياسية وإبطاء تنفيذها، وله في هذا المقام مواقف غاية في التشدد، منها رفضه القاطع لتمثيل النساء في مجلس الشورى المعين من قبل الملك عبد الله، وقوله: "المملكة لا تحتاج إلى إجراء انتخابات لأن التعيين يختار الأفضل دائماً، ولو كانت العضوية بمجلس الشورى بالانتخاب لما كان الأعضاء على مستوى من الكفاءة.."، وممانعته توسيع هامش الحريات، وعلاقاته المتردية مع الناشطين الحقوقيين في السعودية، ودعمه "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، التي شُكِّلت في عشرينيات القرن الماضي لنشر المذهب الوهابي، واستمرت تفرض على المجتمع أحكاماً في الأخلاق والسلوك الاجتماعي، تحرص فيها على عزلة النساء، والحجر على الحق في الاجتهاد بما يتماشى مع احتياجات الدولة ومقتضيات الصالح العام للمجتمع السعودي.
دون تعليق، نذكر أن البعض يقدِّم إقرار بطاقات الهوية الشخصية للنساء كمثال على مبادرة ولي العهد ووزير الداخلية الراحل إلى خطوات تحديثية في المجتمع السعودي.
بيد أن الطابع المحافظ كان واحدة من سمات شخصية الأمير نايف، إلى جانبها سمات أخرى تجعل منها شخصية إشكالية ومثيرة للجدل، دفعت العشرات من النشطاء الحقوقيين في المملكة إلى إطلاق عريضة في نيسان/أبريل 2012، نادوا فيها ببطلان البيعة له بالمُلك، لأنه "أكثر الأمراء استبداداً.."، على حد وصف من وقَّعوا العريضة.
وشابت علاقات الراحل مع إدارة بوش الابن محطات توتر، ولم تكن على خير ما يرام مع إدارة أوباما، فقد شكك الأمير نايف، في تشرين الثاني/نوفمبر 2001، باتهامات واشنطن لعناصر من "القاعدة" بالضلوع في تنفيذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، وأضاف قائلاً: "من المستحيل أن يقوم شباب في التاسعة عشر بتنفيذ العملية، أو أن يفعلها بن لادن و"القاعدة" بمفردهم.. أعتقد أن الصهاينة مسؤولون عن هذه الأحداث".
لكنه عكف على محاربة عناصر "تنظيم القاعدة" على الأراضي السعودية، وبنى تحالفات إقليمية ببعد دولي لتجفيف منابع دعم "القاعدة" في بلدان شبه الجزيرة العربية وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي. ورغم ذلك ظلت واشنطن توجه له الانتقادات لخلافاتها معه بشأن الإصلاحات التي كان يقف ضدها، ففي تقرير دبلوماسي لوزارة الخارجية الأميركية سربته "ويكيليكس" نُسب إلى دبلوماسي أميركي قوله إن الأمير نايف أكثر رجالات الحكم في السعودية "ممانعة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان".
وكان الراحل من أشد المناوئين لثورات "الربيع العربي"، ويقال بأنه هو من اتخذ قرار استقبال الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وكذلك قرار توجيه دعوة لاستضافة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، اعتذر عنها الأخير في الأيام الأولى من تنحيته، وهو أيضاً من ضغط لفرض تسوية الأزمة اليمنية بمنح الرئيس علي عبد الله صالح حصانة قضائية. وفي العديد من الأقوال المنسوبة له، انتقد الأمير نايف المواقف المتراخية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي من نظامي حكم بن علي ومبارك. وسعى لتطويق الأزمة في مملكة البحرين، ومجابهة أي أزمات محتملة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، من خلال اقتراح "اتحاد خليجي"، لم يحظ سوى بموافقة السعودية والبحرين.
برحيل الأمير نايف وتعيين الأمير سلمان عبد العزيز خلفاً له في ولاية العهد، والأمير أحمد بن عبد العزيز في وزارة الداخلية، خلطت أوراق التوازنات من جديد داخل الأسرة الحاكمة، وربما تكون السعودية على موعد مع إصلاحات سياسية واجتماعية سريعة نوعاً ما بالقياس إلى ما سبق، لكن ذلك لن يمنع بروز صراعات بين أجنحة الأسرة الحاكمة، صراع بين "الجناح السديري" وباقي الأجنحة الأخرى من الأخوة غير الأشقاء لـ"لأمراء السديريين"، وما بين الجيلين الأول والثاني من أبناء عبد العزيز وبين الجيل الثالث، الذي بات يحتل مواقع مؤثرة في مفاصل الحكم. وستظل عيون العائلة الحاكمة بكل أجنحتها مركزة على سيناريوهات مستقبل الحكم برمته، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، من ارتفاع في معدلات البطالة واستشراء الفساد وانعدام تكافؤ الفرص وانسداد أفق إصلاح سياسي حقيقي وجوهري، باتت تشكل بؤر توتر مرشحة للاتساع إلى درجة تهدِّد استقرار النظام السياسي، إذا لم تأت الإصلاحات السياسية بالحجم المطلوب.
لقد اختل التوازن الاجتماعي في المملكة السعودية، ولم يقم بعد توازن جديد رغم كل ما ابتدع من مرتكزات وإجراءات جزئية، وهذه حالة مهزوزة ومشحونة بانفجارات اجتماعية لا يستبعد أن تتخذ أشكالاً غير متوقعة على الإطلاق، ستكون لها أبعاد إقليمية ودولية بعيدة المدى نظراً لمكانة السعودية، النفطية والمالية والدينية، وموقعها الجيوسياسي.
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد