تعتبر الثقافة احد المكونات الرئيسة في بناء الدولة الحديثة و لا يقل دورها عن دور السياسي في بلورة الوعي المتقدم للافراد وللدولة ومؤسساتها, بل انها تشكل في اوقات وظروف معينة الركيزة الاساسية للنهوض بالراكد والمتدني والهامشي في الواقع الاجتماعي,
وكثيرا ما يستعين السياسي بالمثقف من اجل اخراجه او انقاذه من متاهة او ازمة قد عصفت به او بدولته, وللثقافة ادواتها, هي (النخبة) يروجون للافكار التي تحمل ثنائية (الضد او مع) وان (الذين مع اوبالضد) يقدمون جهودهم في ضوء ما يحملون من افكار ورؤى وما ينتج عنها من مخاضات تصب في مجرى الحل للاشكاليات الكبرى وحسب قناعاتهم.
ومن خلال قراءة متواضعة للواقع الثقافي العراقي ولمدة اقل من نصف قرن من تاريخ العراق الحديث نخلص لوجود كنز من العلماء والمثقفين الذين لم يبخلوا بعطاءاتهم ان كانت هذه العطاءات ميتافيزيقية او معرفية او اخلاقية وبالتالي فانها تصب في صياغات نظرية وافكار معرفية وبسبب من اصالتها والتصاقها بالهم الوطني والانساني كانت مثابة او منطلقا نحو هدم تابوات واصنام التحجر الفكري والسكون بمعول الانسانية وبناء فكر تنويري يتسامى مع الانسان ويؤشر على محنته. وفي ظل الانظمة الاستبدادية او في سيادة سلطة الدولة الشمولية تتحول الهوية الثقافية من هوية وطنية ناصعة الى هوية ديماغوجية مزيفة ويكون التنافس بين المثقفين لاثبات ايهما اخلص من غيره لترجمة هويته الجديدة التي وضعت تحت رحمة السلطة القامعة المتمثلة بالدفاع عن ممارساتها ضد الشعوب. لهذا فأن الناس اوجمهور السواد الاعظم في هذه البلدان لا تهتم بالمرة بأمر هؤلاء المحسوبين على الثقافة لا بل انها تنظر اليهم نظرة ازدراء ودونية لا يمانهم ان جل الظلم الواقع عليهم من السلطة الحاكمة قد باركته اقلامهم المأجورة ومنحته جوازاً للمرور على رؤوس الشعب. ان الافلام والفنون السمعية والمرئية والاعلام ووصولا الى اللوحة التشكيلية تتحول في ظل هكذا انظمة الى تجارة لا تقبل الخسارة المادية , ان هذه الاعمال ( الثقافية ) في الظاهر والتجارية في الباطن يتم تحويلها الى دعم للايديولوجيات لتمرير افكار اصحابها وبمرور الوقت يزداد جيش (المثقفين التجار) وتتعاظم قوتهم ونفوذهم وينطلقون من مبدأالتسيد والهيمنة والتضحية بكل القيم من خلال طرح بضاعتهم (الثقافية) في سوق النخاسة.
وبات من المؤسف ان نرى بعض مثقفينا وقد حملتهم امواج الهويات الفرعية الى حيث ترغب هي, وهم يعتقدون انهم في طريقهم الى شواطئ دافئة فأزداد التصدع والقطيعة ما بين المثقف والمتلقي في احيان كثيرة وتخلى المتلقي عن الثقة التي كان مبهوراً بها والتي تربطه بالمثقف في الوقت الذي كان المثقف هو الاسم الاسمى من بين الكائنات المميزة في الساحة السياسية والثقافية, وقد يكون المثل الاعلى للمتلقي, فانزلاق المثقف في متاهة الهويات الفرعية التي كيفت سلوكيات الكثير منهم نحو الانغماس في الترف واللاشعور ما يحدث في الواقع المؤلم والعمل الدؤوب للوصول الى اعلى المراكز المؤثرة, هذا التغيير في عقلية المثقف لا يكون بمعزل عن النتاج الثقافي المتساوق مع العقلية السياسية الجديدة وبالتالي فأن الخلق الثقافي قدم التنازلات والانحناءات والغور في المتاهات من اجل الوصول الى الاهداف المنشودة, الشخصية والانانية والاحادية, ما يدفع الشعور الجواني للمثقف بنأيه عن مشاعر جمهور المتلقين. ان شخير المثقف الفاتح العينين والمرتدي عباءة الوهم بانه يرى الذي يرغب ويريد ان يراه فقط هو احد اشكاليات الوعي السائد في الثقافة العراقية - العربية المعاصرة والمهيمنة وهي صناعة ثقافة ليست بجديدة على واقعنا الاجتماعي, وبما ان احد الشروط الاساسية في ظهور هكذا ثقافة ناتج عن عدم استيعاب كامل للمرحلة السياسية والاجتماعية وبالتالي فأن المعايير تحمل في طياتها خواء الذوق وتخلف في مناسيب الثقافة الجادة ما سبب في الانعزال والانطواء او بمعنى اصح الهروب من مواجهة الواقع لكثرة دمويته, فبعض المثقفين يتجنبون الثقافة الصادمة, الدموية. والفاجعة في اكثر الاحيان ويتركون الساحة لثقافات متصارعة ومتضادة ومتقاطعة بين مؤيد للعنف او رافض لها. الثقافة الانتهازية هي اكثر قلقا وحيرة في انتاجها الثقافي الا ان الاكثر خطورة هو موقف المثقف الصامت, الساكت الذي انجبته الثقافة كمولود منغولي لا تعيده الى الحياة الثقافية لا حاضنات الخدج الثقافية ولا غودو بانتظار(الفرج) لانه في الحالتين ستاكله (معنويا) طرفا الاشكالية الثقافية وصراعهما من اجل السيطرة والبقاء وان احد ى نتائج غفوته على سرير الانتظار وتصاعد شخيره على فراش نقص المناعة الثقافية وانتاجه لمفاهيم الكسل والانتظار لحين انجلاء غبار المعركة والابتعاد عن المسؤوليةالتاريخية للمثقف في محنة وطنه تخلق عدم توازن بين طرفي الصراع الثقافي في الوقت الذي نرى بعض المثقفين يجيدون القفز والانتقال السريع من موقع الى آخر حسب ما تقتضيه المصلحة الخاصة.
ان الايفاء ببعض الالتزامات الاخلاقية للمثقف واهمها ان يدير بوصلة وعيه الى المهيمنات في الساحة الثقافية - الاجتماعية العراقية وعدم ترك الامور المعرفية والاخلاقية خلف ظهره في الوقت الذي بات من الضروري ان يشارك الجميع ومنهم المثقف في بلورة موقف ووعي مدرك او صياغة نظرية تقي البلاد والعباد من الدمار.
أقرأ ايضاً
- التبادل التجاري مع دول الجوار
- إضعاف الدولة.. وزارة التجارة مثلاً - الجزء الثاني
- إضعاف الدولة.. وزارة التجارة مثلاً - الجزء الاول