- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
البَحثُ عَنِ السِيَادَةِ في زَمَنِ الإحْتِلال
إنّ منطق الدّولة الأقوى في العالم، هو الأكثر تحكماً بمجريات السياسة الدوليّة. ويكاد يكون هذا المنطق سارياً بشكل صارم على مرّ التاريخ. فالدّول القويّة تسعى للتمدّد إلى خارج حدودها، لأنّ البقاء في جغرافيّتها المحدّدة، سيقتلها ويفني وجودها. أكان هذا التمدد آيديولوجياً، أو سياسياً، أو اقتصاديا، أو عسكرياً، أو ثقافياً.
والدّولة التي تمتلك موارد القوّة، على مستوى الثروات، و وفّرة الطّاقة البشريّة، تتطلّع دوماً للإرتقاء والهيّمنة على العالم. فالتاريخ يحدثنا عن العمليّات السَوقيّة لمثل هذه الدول، كما حصل للإمبراطوريّة الرومانيّة مثلاً. أمّا دوّلة من هذا النمط، و تَبقى متقوقعة داخل شرنقة محيطها المحليّ، دون ممارسة أيّ نوع من أنواع التمدّد آنف الذكر، تصبح دوّلة منسيّة، يحتقرها التاريخ المحلي والعالمي أيضاً.
هذه ليست نظريّة، وإنّما حقيقة وسُنّة تاريخيّة حاكمة، سار على منوالها تاريخ البشريّة، منذ أنْ عرف الإنسان الاستقرار، في بواكير حياته الرعويّة. فما من دوّلة بالعالم سابقاً و لاحقاً، تمتلك مميّزات القوّة الإقتصاديّة، والبشريّة والعلميّة والعسكريّة، إلاّ وحاولت غزو الدّول الأخرى، بحثاً عن مصادر المواد الأوليّة، وفتح أسواق جديدة لتصريف منتجاتها، لاستدامة حركة نموها الاقتصادي بصورة متصاعدة. وبالتالي السعي لتأمين بقاء هذه المصادر تحت نفوذها، ما دامت الظروف الداخليّة والخارجيّة لهذه الدّولة، تسير في صالح تحقيق طموحاتها. على هذا الأساس تسير حياة الدّول، وعلى هذا النهج تستمر عجلة الحياة الإنسانيّة قدماً، بين قاهر ومقهور، وهكذا تبقى قوانين التاريخ تعمل إلى نهاية العالم.
عندما كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة، مسيطرة على سواحل البحر المتوسط. أراد يوليوس قيصر أنْ يجد مصادر جديدة للقمح، لاطعام إمبراطوريّته الواسعة، فقرر غزو مصر عام (33ق.م)، لتأمين ذلك، وأيضاً لفتح أسواق جديدة، تدرّ المال على إمبراطوريّته. والتاريخ يروي لنا قصة كليوباترا، التي حوّلت غزو يوليوس قيصر لمصر، إلى قصّة غراميّة، بدلاً من أنْ تكون قصّة مأساوية، لأنّها أدركت، أنْ لا قبل لها لجيوش الرومان الغازيّة، وأنّ الرومان قادمون لاحتلال مصر لا محالة. فما عساها أنْ تفعل ؟، سوى أنْ تفتح صدرها لقيصر روما، وتكفي مصر من تخريب ودمار الإحتلال...
وبناءً على هذا التفسير لحقيقة بقاء واضمحلال الدّول، يجب أنّ لا نستغرب، من وجود قوّة عظمى في العالم، بأيّ مرحلة من مراحل التاريخ. وفي حالة وجود أكثر من قوّة عظمى، يبدأ قانون توازن القوى بالعمل، ليكون العامل الحاسم في استقرار السلم في العالم. وبدونه لابدّ من وجود حرب شاملة، تخوضها القوى العظى، فتفرز نتائج الحرب، وجوداً جديداً للقوّة العظمى المنتصرة، من بين معادلة صراع القوى العظمى المتحاربة.
وبدون ذلك، فإنّ حروباً بالنيابة، عن هذه القوة العظمى وتلك، ستبقى مستمرّة لغرض تحقيق التوازن، بميزان القوى العالمي، فهذا أمر طبيعيّ. و لكن من غير الطبيعيّ، أنْ يتصور شخص مّا، بـأنّ العمل طوعاً (وليس قسراً)، تحت مظلّة دوّلة عظمى، أنّه يستطيع فرض إرادته عليها. فمن يتصوّر هذا التصوّر، إمّا أنْ يكون معتوهاً، أو جاهلاً بما يجري من حوله. أمّا المكره (الذي لا حيلة له في دفع أطماع القوى العظمى)، فبإمكانه عن طريق الحنكة السياسيّة والتخطيط الدقيق، أنْ يحصل على نسبة من المكاسب و المصالح التي تنفع بلده، وستكون أبسط المكاسب المتحققة، هي بمثابة استنقاذ جزء من حقّ مغتصب.
أمّا البديل الآخر لرفض حالة الإحتلال، هو سبيل المواجهة. وهذه الطريقة لا تتحقق إلاّ بوجود أربعة عناصر رئيسيّة هي :
1. قاعدة شعبيّة مضحيّة واعية لدورها الثوري، واثقة بعمق من حنكة قيادتها.
2. قيادة حكيمة تمتلك قلوب الجماهير وتسيطر على عواطفها.
3. الوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي من الموارد الإقتصاديّة المختلفة.
4. وأخيراً غطاء من قوّة عظمى لحماية هذا المشروع من اعتداء الآخرين.
وإذا فقدت أيّة ثورة في العالم، أحد هذه العناصر، فإنّها ستفشل لا محال. لقد فشلت حركة الدكتورمحمّد مصدق في إيران عام 1953، وثورة المرحوم عبد الكريم قاسم في العراق 1963، وغيرهما الكثير من ثورات التحرير في العالم، بسبب عدم استكمال الشروط المذكورة آنفاً. بيّنما نجحت ثورة عام 1979 في إيران، لاستيفائها لتلك الشروط في حينه، وإنْ فشلت القيادات التي تلتها، في استجماع هذه الشروط عندها.
ومن سوء طالعنا نحن العرب، ابتلينا بوفرة الخامات ومن أهمّها النفط، وابتلينا بمُركّبات الضعف والوهن، وتفرّق الإرادات، وتشتت المواقف، وانعزال بعضنا عن الآخر. بالإضافة إلى الشراهة المفرطة عندنا، في استهلاك كلّ شيء، مفيداً وضاراً. لهذا أصبحنا سوقاً كبيرة تستهلك ملايين الأطنان من السلع المختلفة، التي نستوردها من الخارج.
هذه العوامل ادخلتنا كأطراف في نزاعات القوى العظمى، وأصبحنا ساحة لتصفيّة الصراعات الدوليّة، دون إرادتنا. فنحن دائما في نظر القوى العظمى (الكعكة المزوّقة)، وكلّ يريد حصّته الأكبر منها. إذن شئنا أمّ أبيّنا، فنحن جزء فاعل من الصراع الدوليّ، وجزء مهم في تحديد سياسات القوى العظمى بالمنطقة.
على ضوء ما تقدّم، يمكن رسم صورة توضح مأزق بعض السّياسيين العراقيين، الذين قرروا الركوب مع المحتلّ على دبابته، وهو سائر صوب احتلال العراق، وبعد تحقيق أهداف خطة الإحتلال كاملة. آن لأمريكا أنْ تطالب بمصالح سياسيّة، وبأهداف اقتصاديّة، ونظرة استراتيجيّة ليس للمنطقة فحسب، وإنّما لوضع العالم حالياً ومستقبلاً. انتبه هذا البعض من نشوة الأحلام، وشاهد ردّة فعل الكثير من العراقيين، على توقيع (الاتفاقية الأمنية الأمريكية والعراقU.S. Security\" Agreements and Iraq \"). وشاهد كذلك اصطفاف بعض العراقيين، إلى جانب إصرار الأمريكيين لتوقيع الاتفاقيّة. وسمع علناً تصريحات الأمريكان غير المريحة، بأنّ العواقب لا يحمد عقباها، عند انسحاب القوات الامريكية من العراق، (إشارة الى عودة أعمال العنف إلى الساحة العراقيّة)، وهمساً (أن لا أحد سيحمي القادمين معنا إلى العراق من مغبّة المخفي من الأحداث).
هذا المشهد الزاخر بالمفاجئات المتناقضة والمتعاكسة والمتضاربة، يستحثنا لتحليل الأمور إلى عواملها المنطقيّة، حتى نستطيع الوصول إلى الحلّ الأمثل، لهذه المعضلة على ضوء المعطيات التالية :
1. الموقف الإيراني: لم يعد خافياً على أحدّ، بأنّ لإيران مصالح اقتصاديّة في العراق، وإنّ عين إيران على العراق، منذ تاريخ ماضٍ يمتدّ إلى (طيسفون) حاضرة الأكاسرة، في زمن ازدهار امبراطوريتهم (سلمان باك حاليا)، التي سقطت على يد سعد بن ابي وقاص عام (650م). ومن الممكن أنْ يكون العراق، جسراً يربط مصالح إيرانيّة (آيديولوجيّة، اقتصاديّة، سياسيّة، عسكريّة، امنيّة، ثقافيّة....الخ)، مع وجودات قائمة في بعض دول جوار العراق، بمعنى من (المحتمل)، إذا سارت الأمور كما متوقع بموجب الرؤية الإيرانيّة، أنْ يكون التالي:
أ. أنْ يصبح العراق أولاً، ومن ثم بعض الدول المجاورة له، أشبه ما يكون بمناطق نفوذ إيرانيّة.
ب. إنّ لم يكن ذلك الآن، فليكن على أقل تقدير، على مستوى السيطرة على السوق الاقتصاديّة العراقيّة. التي تستطيع إيران اغراقها، بأنواع المنتجات الإيرانيّة، و بأسعار تنافسيّة، بالاستفادة من رخص اليد العاملة في إيران، ورخص نفقات النقل. لأنّ الطرق التي تربط البلدين، هي طرق بريّة، لا يتطلب استخدامها الكثير من النفقات، وكون إيران بلد نفطي، فاسعار وقود وسائط النقل البريّة، ستكون رخيصة، إذا ما قورنت مع تركيا مثلاً. إضافة لذلك فطرق المواصلات بين إيران والعراق، تمرّ بمناطق منبسطة في الوسط والجنوب، الأمر الذي يسهل انسيابيّتها على مدار العام. وهذه المميزات متوفرة لإيران، أكثر من غيرها من الدول الراغبة، في جعل السوق العراقيّة مكاناً لتصريف بضائعها، خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك، أنّ الصناعة الإيرانيّة تتقدم بالمطلق، على صناعات جميع الدول المجاورة للعراق باستثناء منافسة تركيا.
ج. إيران تريد أنْ يكون بيدها العراق، لتستخدمه كورقة من بيّن أوراقها، للضغط بها على أمريكا. فمن المعروف أنّ البرنامج النوويّ الإيرانيّ، يشكّل مصدر قلق كبير عند الإدارة الأمريكيّة الحاليّة و اللاحقة أيضاً. وإلى الآن يعتبر هذا الموضوع أكبر أزمة بين الطرفين. فإيران تريد أولاً، حل قضيّة النزاع النوويّ مع الولايات المتّحدة، بشكل يوافق توجهات إيران. إنّ الأمل الذي قدّمه (باراك أوباما) في حملته الانتخابيّة، عندما ذكر : أنّه سيتحاور مع إيران، في حالة فوزه بالانتخابات الرئاسيّة، لحل المشاكل بيّنها وبيّن أمريكا. فإيران تريد الإنتظار، لحين وصول أوباما إلى سدّة الحكم، (مع الاحتفاظ بالوقة العراقيّة بيدها)، لغرض تحقيق علاقة مضمونة مع الإدارة الأمريكية المقبلة. ومن ثمّ اعطاء الضوء الأخضر، لتوقيع الإتفاقيّة بين العراق وأمريكا، إذا كان ذلك مناسباً لها.
د. إيران لا تريد أنْ يكون العراق، منطقة نفوذ لعدوّها اللدود أمريكا. و أنْ لا تكون الأراضي العراقيّة، مركزاً لمراقبة نشاطاتها المختلفة وإنْ كان عن بعد.
هـ. إيران تتحسب من المستقبل بحساسيّة شديدة، فقد يكون التواجد الأمريكي في العراق، أشبه ما يكون بالخطر المتربص بإيران، فريثما يحصل طارئ معين في داخل إيران، تستطيع أمريكا النيل منها، بتطوير موقف هذا الطارئ، بالضد من المصالح الإيرانيّة.
2. موقف دول الجوار العربي و تركيا. لم يصدر على مستوى الإعلام، أيّة ممانعة من هذه الأطراف، إزاء توقيع الإتفاقيّة الأمريكيّة العراقيّة، فمن الممكن تسجيل الموقف الحيادي لهذه الدول بشأن الإتفاقيّة. لكن يجب أنْ نسجل في ذاكرتنا، عدم ارتياح الأنظمة العربيّة عامّة، والخليجيّة خاصّة، للآليّة الديمقراطيّة في تداول السلطة بالعراق. فلو نجح العراق في هذه التجربة، فبدون شكّ ستحصل الكثير من الأزمات السياسيّة في هذه الدول، منشؤها نجاح التجربة الديمقراطيّة في العراق. فمن هذا الهاجس تحاول الأنظمة العربيّة، التخلص من الحالة الجديدة في العراق، ضماناً لمستقبل خالٍ من المشاكسات السياسيّة.
3. الموقف الأمريكي من عدم توقيع الاتفاقيّة. لقد كانت تصريحات رئيس أركان الجيش الأمريكي، الأميرال (مايكل مولن) يوم الثلاثاء 21/10/2008 تصك الأسماع. وقد ضمّ وزير الدفاع الأمريكي (روبرت غيتس)، صوته إلى صوت الأدميرال مولن، حيث قال الأول جهاراً نهاراً كما جاء في موقع الـ(بي بي سي):
(... خسارة العراق فادحة في حال لم توقع الاتفاقية قبل نهاية العام الحالي). أمّا جيتس(...حذر من العواقب الوخيمة للفشل في توقيع تلك الاتفاقية..... واشار جيتس الى ان القوات الامريكية ستكون عاجزة عن القيام بأي مهام في حال عدم التوصل الى اتفاق. وفي ما يتعلق بإدخال تعديلات على نص الاتفاقية المقترحة اشار جيتس الى انه من الصعب \"جدا اعادة التفاوض\" حول الاتفاقية المقترحة بالنسبة لواشنطن)(بي بي سي الاربعاء 22/10/2008)(انتهى).
بناءاً على المعطيات آنفة الذّكر، لابدّ أنْ يقوم المجلس السياسي الوطنيّ العراقيّ، من وضع تصوراته الاستراتيجيّة الدّقيقة، والبدائل المقترحة لحالتي التوقيع على الإتفاقيّة أو عدمه. آخذين بنظر الإعتبار، أيّ الكفتين ستكون في صالح الشعب العراقيّ ؟؛ كفّة عدم توقيع الإتفاقيّة مع الجانب الأمريكي، أمّ كفّة توقيع الإتفاقية معه؟. فحسابات تحقيق المكاسب للشعب العراقيّ، في حالتيّ توقيع الإتفاقيّة أو لا، هي القول الفصل في هذا الموضوع. ويجب أنّ لا ينسى السادة المسؤولين العراقيين، التهديدات الأمريكيّة على لسان مسؤولين رفيعي المستوى، في الإدارة العسكريّة الأمريكيّة. وأنْ يضعوا في حساب المعادلة، أنّ أصدقاءهم الأكراد شديدوا الرغبة بتوقيع هذه الإتفاقيّة اليوم قبل الغد. فالسيد (فرياد راوندوزي) عن التحالف الكردستاني، أشار الاربعاء 22/10/2008 من قناة الحرة، (إلى احتمال حصول انقلاب عسكري في العراق، في حالة عدم توقيع الإتفاقية).
ملاحظة أخرى : هل توجد خيارات بيد القادة السياسيين، يستطيعون المناورة بها، للتخلص من أحد النفوذين الأمريكي أو الإيراني أو كليهما معاً ؟. مع الأسف الشديد الإجابة بالنفي، هي الأكثر واقعيّة على هذا التساؤل.
فلا الذين تدعمهم أمريكا سيوصلون العراق، إلى منطقة السيادة (سواءاً السيادة المعنوية، أي سيادة الإرادة والقرار. أو السيادة الماديّة، أي فرض سلطة الدّولة على الأراضي والمياه والأجواء العراقيّة). ولا الذين تدعمهم إيران، يستطيعون فعل ذلك أيضاً.
فقط أولئك الذين يدعمهم الشعب العراقيّ، هم الذين يستيطيعون منح السيادة الكاملة له. ولكن هل يوجد أحد منهم داخل منظومة سلطات الدّولة العراقيّة، بعدما فشل المسؤولون الحكوميون، من تقديم أبسط الخدمات، لأبناء الشعب العراقي، على مدار السنين الخمس الماضيّة؟. فلو كان النجاح بدل الفشل، لكان بيد المسؤولين العراقيين، أكبر قوّة ضغط على كلّ من أمريكا وإيران، لكن كما قال المثل العربي: (في الصيف ضيعت اللبن).
* كاتب وباحث عراقي