وكانت الحكومة العراقية قد احتسبت الموازنة العامة ضمن الإطار المالي للموازنة الثلاثية على أساس سعر نفط يقارب 70 دولاراً للبرميل، ما يعني أن الفارق بين السعر المعتمد في الموازنة والسعر الفعلي في الأسواق يتجاوز 10 دولارات للبرميل، وهو فارق كبير في ما يخص اقتصاد يعتمد بشكل شبه كلي على الإيرادات النفطية.
وفي محاولة لاحتواء تداعيات تراجع أسعار النفط، وجّهت الحكومة العراقية، بقياس الأثر المالي للإجراءات الإصلاحية المرتبطة بترشيد الإنفاق وتعظيم الإيرادات، في إطار مساعٍ رسمية لتقليص فجوة العجز وتحسين وضع المال العام.
ويأتي ذلك ضمن توجه حكومي يركّز على تقليص الإنفاق الحكومي مقابل توسيع قاعدة الإيرادات، في ظل ضغوط مالية متزايدة. ويقترب عام 2025 من نهايته من دون إقرار الموازنة العامة للدولة، في مشهد يعكس عمق الارتباك المالي الذي تعيشه البلاد، وسط تذبذب أسعار النفط واتجاهها النسبي نحو الانخفاض.
وفي هذا السياق، حذّر علي العلاق، محافظ البنك المركزي العراقي، من الضغوط الكبيرة التي تواجه الإنفاق العام، ولا سيما الرواتب والإعانات والخدمات الأساسية، مؤكداً أن المساس بهذه البنود لا يُعد خياراً سهلاً لما قد يترتب عليه من تداعيات اجتماعية مباشرة.
وأوضح العلاق، خلال محاضرة عن تمويل التنمية في ظل أزمة الديون العالمية، أن اعتماد المالية العامة العراقية على النفط بنسبة تفوق 90% يجعل الإيرادات شديدة التأثر بتقلبات الأسعار العالمية، ما يفرض البحث عن حلول هيكلية وتنويع الاقتصاد وتعظيم الإيرادات غير النفطية.
وأشار إلى، أن ضعف القطاعات الإنتاجية حوّل العراق إلى بلد مستورد بامتياز، الأمر الذي يفرض ضغطاً مستمراً على الدولار وسعر الصرف، وينعكس مباشرة على السياسة النقدية، رغم ما حققته من نجاح نسبي في الحفاظ على الاستقرار السعري وإدارة السيولة.
وفي خطوة موازية، أقرّ المجلس الوزاري للاقتصاد، برئاسة رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني، حزمة إجراءات تقشفية تهدف إلى تقليص الإنفاق الحكومي وتعظيم الإيرادات، في ظل أزمة سيولة مالية متفاقمة.
وشملت هذه الإجراءات تقليص الإنفاق على الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) وتوحيد رواتب موظفيها ومخصصاتهم، إضافة إلى خفض تخصيصات الإيفاد لموظفي الدولة بنسبة 90% وقصرها على الحالات الضرورية، إلى جانب إجراء مراجعة عاجلة لملف توحيد سلم الرواتب.
كما تضمّنت القرارات خفض نسب الإشراف والمراقبة في المشاريع الجديدة، واعتماد برنامج استيرادي وطني يقتصر على السلع الأساسية، في محاولة للحد من النزيف المالي وضبط الإنفاق في المرحلة المقبلة.
إلى ذلك، قال الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي إن عوامل انخفاض أسعار النفط عالمياً خلال العام المقبل تبدو أقوى بوضوح من العوامل الداعمة لارتفاعها، ما يرجّح حدوث فائض في المعروض النفطي وانخفاض أسعار البرميل واستقرارها عند مستويات متدنية.
وأشار الهاشمي إلى أن هذا الواقع سيُحدث فجوة تمويلية كبيرة في المالية العامة، ولا سيما أن هيكلة الموازنة بُنيت على أسعار نفط أعلى بنحو 15 إلى 20 دولاراً للبرميل، فضلاً عن أن العراق لا يمتلك مصدّات مالية أو خطط طوارئ قادرة على حماية المالية العامة من صدمات انخفاض الأسعار.
وأوضح، أن هذا الوضع يضع العراق أمام خيارات محدودة ومؤلمة، أبرزها التوسع في الاقتراض المحلي والدولي لتغطية العجز المالي، أو اللجوء إلى مسار تقشفي يُجبر الحكومة على ضبط الترهل في الإنفاق وتقييد الصرف، سواء في الجوانب الاستثمارية أو التشغيلية.
وأضاف الهاشمي، أن الحكومة قد تتجه أيضاً إلى التلاعب بسعر صرف الدينار من أجل توفير سيولة أكبر للمالية العامة، إلى جانب البحث عن تعظيم الموارد غير النفطية عبر رفع الضرائب، والرسوم، وزيادة الجباية، والجمارك.
وبيّن الهاشمي أن مثل هذه الإجراءات ستلقي بظلالها مباشرة على النشاط التجاري والسوقي في العراق، وقد تؤدي إلى ارتفاع مستويات التضخم وحدوث حالة من الركود في الطلب نتيجة نقص السيولة في الأسواق، متوقعاً أن يواجه الاقتصاد الكلي العراقي ضغطاً مالياً كبيراً خلال العام المقبل، قد يستمر لأكثر من عام.
من جانب آخر، قال المستشار والخبير المالي محمود داغر إن الأسعار المتداولة حالياً للنفط، ولا سيما خام البصرة المتوسط والثقيل، تدور عند مستويات دون 60 دولاراً للبرميل، وهو ما يشكّل ضغطاً مباشراً على إيرادات الدولة، ويضع الحكومة أمام حرج مالي في ظل حجم إنفاق شهري يصل إلى نحو 8 تريليونات دينار لا تستطيع الإيرادات الحالية تغطيته بشكل كامل.
وأشار داغر إلى أن المخاطر مرشحة للتفاقم خلال عام 2026 في حال استمرار أسعار النفط عند هذه المستويات، ما يستدعي مواجهة هذه التحديات عبر إجراءات استثنائية، في مقدمتها العمل على زيادة الإيرادات غير النفطية لتقليص فجوة العجز المالي.
وأوضح أن الخيارات المتاحة أمام الحكومة جميعها صعبة، وقد لا تحظى بقبول شعبي واسع، سواء تلك المتعلقة بتعظيم الإيرادات أو إعادة هيكلة الإنفاق، وهو ما يشكّل العقبة الأكبر أمام أي حكومة مقبلة في إدارة الملف المالي والاقتصادي في البلاد.
كما بيّن داغر أن أي معالجة لا تمسّ بنية الاقتصاد الريعي ستبقى مؤقتة، لذلك تتطلب مواجهة الضغوط المالية الانتقال من حلول ترقيعية إلى إصلاحات هيكلية، في مقدمتها إعادة هيكلة الموازنة العامة وتقليل اعتمادها شبه الكلي على النفط، عبر تنشيط القطاعات الإنتاجية، وضبط الإنفاق غير المنتج، وتعظيم الإيرادات غير النفطية وإصلاح النظام الضريبي ومكافحة التهرب.
وشدد على أن أي تقشف لا يراعي العدالة الاجتماعية سيفشل سياسياً واقتصادياً، ما يفرض على الحكومة أن توازن بين ضبط الإنفاق وحماية الطبقات الهشة، عبر تحصين الرواتب الدنيا والإعانات الأساسية، والبدء بتقليص الامتيازات العليا والهدر الإداري، بالتوازي مع بناء مصدّات مالية وصناديق استقرار تمكّن الدولة من امتصاص صدمات أسعار النفط مستقبلاً.
التعليقات
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!