اشترت جنان حسين، من محافظة بابل (30 سنة) قطعة أرض في منطقة التاجية بأطراف مدينة الحلة، مركز محافظة بابل، مناصفة مع شقيقها كإستثمار للمستقبل ووسيلة آمنة لحفظ مالهما في ظل غياب أو خطورة الاستثمار في مجالات أخرى.
تقول بأنها عملت لخمس سنوات في تصميم الاعلانات، وادخرت الجزء الأكبر من راتبها حتى جمعت 30 مليون دينار (19 الف دولار) لكنه كان مبلغاً صغيراً لايكفي للاستثمار في شراء عقار، كما كان كبيراً على أن تبقيه في المنزل، خشية تعرضه للسرقة: "كثيراً ما سمعت بسرقة المنازل وهذا يقلقني باستمرار".
لذلك قررت مشاركة شقيقها في شراء قطعة الأرض بأطراف الحلة (100 كم جنوب بغداد) مع أن المنطقة مازالت غير مفرزة من قبل البلدية وان تم رسم حدودها على الورق، على أمل ارتفاع سعرها بعد سنوات، أو على الأقل ضمان عدم ضياع مالها.
يتجه كثير من العراقيين مثل جنان وشقيقها، الى شراء الأراضي والعقارات كسبيل وحيد للاستثمار المضمون دون غيرها من القطاعات، وذلك لأنه ووفقاً لخبراء متخصصين في هذا المجال، سوق رائجة نسبة الخسارة فيها واطئة في ظل حاجة البلاد الى أكثر من ثلاثة ملايين وحدة سكنية وهو رقم في تصاعد نتيجة التزايد السريع في عدد السكان.
ويأتي التوجه نحو سوق العقارات نتيجة قلة المجالات المتاحة للاستثمار بغياب الشركات الصناعية والزراعية والتجارية، فضلاً عن فقدان الثقة بالمصارف التي عجزت الكثير منها عن دفع أموال المودعين بالدولار في الفترات الأخيرة، أو نتيجة التعقيدات التي تحيط بعملها في ظل القرارات الحكومية المتقلبة والعقوبات الأمريكية التي تطال مصارف بين حين وآخر.
سوق رائجة
أبو محمد (54 سنة) يدير مكتباً لبيع وشراء العقارات في العاصمة بغداد، يصف شراء القطع السكنية بأنها "المخزن الآمن لأصحاب الأموال، فالخسارة فيها شبه معدومة، ومهما ارتفعت أسعارها تظل مرغوبة وعليها اقبال عالٍ".
ويشير إلى أن سوق العقار في العراق يخضع لسياسة السوق المفتوح، فالعرض والطلب يحدد السعر في ظل غياب شبه تام لأي تدخل حكومي للسيطرة على الأسعار، وبوجود طلب مرتفع جدا داخل المدن فان أسعارها شهدت إرتفاعا مستمرا في السنوات الأربعة الفائتة "حتى وصلت الأسعار إلى مستويات غير اعتيادية".
يضيف أبو محمد: "الأسعار الجنونية للعقارات تجدها بالخصوص في بغداد التي تعد الأغلى بين المحافظات العراقية ويصل سعر المتر المربع الواحد في بعض مناطقها إلى 15 ألف دولار، تليها كل من كربلاء والنجف لمكانتهما الدينية، ومن ثم البصرة والأنبار".
يُرجع الخبير الاقتصادي جليل اللامي، ارتفاع أسعار العقارات في مختلف أنحاء البلاد الى عدم وجود جهود حكومية للسيطرة على قطاع العقارات، اضافةً إلى القوانين الضريبية "المترهلة التي لا تستطيع أن تحاسب المتاجرين والمضاربين بأسعار العقارات".
الى جانب ذلك، يوضح اللامي أن المال السياسي "ألهب أسعار العقارات في عدد من المناطق، إذ يستغل متنفذون طريقة الشراء بالنقد المتبعة في بيع وشراء العقارات لتبييض أموالهم، أي تحويل الأموال غير المشروعة منها الى أموال مشروعة عبر شراء عقارات بها".
وشهدت أسعار العقارات في بغداد، ارتفاعات كبيرة تراوحت بين 20% الى 50% في بعض المناطق بينما سجلت قفزات وبنسبة 100% بمناطق أخرى خلال السنوات الأربع الأخيرة مع ارتفاع اسعار النفط، وفي ظل سرقات كبرى للأموال العامة من قبل مسؤولين مدعومين من أحزاب وقوى نافذة، فقد بلغت حجم الأموال في قضية واحدة تعرف باسم "سرقة القرن" وطالت أموال الأمانات الضريبية، نحو 2.5 مليار دولار، انتهت غالبيتها الى سوق العقارات، دون ان تتمكن السلطات حتى بعد اكتشافها من استعادة الأموال، بل ان القضاء العراقي أفرج بكفالات عن المتورطين فيها.
ويرى اللامي بأن التعثر الذي أصاب أغلب قطاعات الاقتصاد في العراق مع استمرار الحاجة الى وحدات سكنية، دفع التجار والشركات إلى تركيز استثماراتهم في القطاع العقاري، بعد ان وجدوا أرباحه مضمونة، فالأسعار تكاد ترتفع دون توقف في ظل شحة الأراضي المتاحة للبيع في المدن خاصة الكبيرة.
يوافقه في ذلك أحمد التميمي (45 عاماً) من محافظة ديالى، وهو تاجر سلع مواد غذائية، استثمر معظم أمواله منذ عامين في قطاع العقار "القطاع الخاص ميتٌ تقريباً فالصناعة والزراعة المحلية لا يمكنها أن تنافس المستورد من حيث الجودة والأسعار، لذا لا نجد استثمارات انتاجية ففيها مخاطرة كبيرة".
ويضيف:"اشتريتُ أكثر من بيت وقمتُ بتأجيرها، على الرغم من أنني كنتُ قادراً على تأسيس شركة مقاولات والدخول في مشاريع صغيرة، لكني خشيتُ من مساومات العصابات المنتشرة، فكلما كبر عملك كلما زادت مخاطر التعرض لك من قبل تلك العصابات".
وتخضع عقود ارساء المشاريع في قطاعات البلديات والاعمار والانشاءات المختلفة، الى قوانين وضوابط حكومية يمكن ان تضمن ارساء العقد عليك في حال قدمت سعرا تنافسيا، لكن العقدة تتمثل في حصص المليشيات والاحزاب ذات الأجنحة المسلحة المتحكمة فعليا بالقرارات فهي لن تسمح لك بالفوز بأي عقد اذا لم تستحصل حصة من الأموال المرصودة.
الأمن والسلاح المنفلت
"السلاح المنفلت" وهي عبارة متداولة في العراق للإشارة إلى الميليشيات والعشائر التي تحمل السلاح دون رقابة أو مساءلة من قبل الدولة، يلعب دوراً بارزاً في توجيه وتحديد خيارات الاستثمار بالنسبة للمواطنين بنحو عام والمستثمرين أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة بنحو خاص، هذا ما يقوله الخبير الأمني عبد الخالق الشاهر.
ويتابع:"هنالك 65 فصيلاً مسلحاً خارج مؤسسات الدولة الأمنية ولاتخضع لقرارها، وليست كلها ممولة من دول أخرى، لذا تلجأ الى استخدام سلاحها للتهديد والابتزاز وفرض الأتاوات بغية تمويل نفسها".
ذات الشيء كانت المجاميع الارهابية المسلحة تقوم به كالقاعدة وداعش، وهو ما يدفع المتمكنين، وفقا لما يقوله الشاهر، إلى الإمتناع عن تشغيل أموالهم في أعمال القطاع الخاص المتنوعة كالمشاريع الصناعية بما تتطلبه من حسابات معقدة وهامش ربح وخسارة.
وتتطلب المشاريع الصناعية بما فيها الصغيرة الدخول في روتين موافقات العمل ثم حسابات الضرائب والرسوم المتقلبة للمواد الأولية، ومتطلبات الانتاج المختلفة، وأخيرا احتمالات أن تزعجك الفصائل بمطالبها في ظل هامش الربح المحدود، لذا يفضل الأغلبية استثمار اموالهم في سوق العقارات حتى مع ارتفاع اسعارها.
تاجر "لعب أطفال" من العاصمة بغداد، فضل عدم الكشف عن أسمه، أكد فرض ميليشيات مسلحة إتاواتٍ على على كبار التجار والأغنياء في المدينة: "عليك ان تتفاهم معهم وديا أو تتعرض لمضايقاتهم".
وذكر بأن محال الصيرفة والذهب والمتاجر الاستهلاكية الكبيرة هي الأكثر إستهدافاً، ويضيف:"أما المناقصات والمزايدات الحكومية فلن تحصل عليها دون أن تدفع الى أحد ممثلي الأحزاب او المليشيات في الدوائر الحكومية نسبة من قيمة العقد الذي أبرمته مع الدولة، تتراوح بين 10 إلى 20%".
محمد مروان (61 سنة) "تاجر دواجن" من محافظة نينوى، يقول بأن المواطنين في المناطق الغربية تعلموا درساً بليغاً مع تجارب التدهور الأمني المستمر من نيسان 2003 لغاية حزيران 2014 عندما سيطر تنظيم داعش على أربع محافظات بينها نينوى التي يسكنها ما يزيد عن أربعة ملايين نسمة.
ويوضح: "التنظيم كان يجبي الأموال بنحو شبه شهري من جميع فئات وشرائح المجتمع، أي شخص تظهر عليه النعمة (مقاولون، تجار، أطباء، أصحاب مشاريع صغيرة) يتوجب عليه الدفع ومن يرفض يُقتل هكذا جرى الأمر حتى منتصف 2014، وبعدها ومع سيطرته الكاملة على المحافظة وضع يده على الأموال في المصارف وتلك المودعة في المنازل وكل الأموال غير المنقولة كالمكائن والمركبات، هكذا خسر المئات منهم معظم رؤوس أموالهم".
وبعد تحرير نينوى من داعش في صيف 2017، لجأ الناس إلى شراء العقارات من أراض سكنية وزراعية ومشيدات تجارية وسكنية "لأنهم باتوا مقتنعين تماماً بأن العقار هو الخيار الأنسب لحفظ الأموال، فداعش الذي استولى على كثير منها، تركها في النهاية ليستعيدها أصحابها".
قطاع مصرفي غير موثوق
تعد المصارف، الوسيلة الأهم لتوزيع الموارد على مختلف القطاعات والمساهمة في نموها، وتعتمد اعتماداً كبيراً على ودائع المواطنين لتحقيق ذلك. إلا ان المصارف العراقية لا تحظى بثقة ومقبولية من قبل غالبية أصحاب الأموال، بحسب الخبير المالي جليل اللامي.
ويعتقد بأن ذلك كان وراء نشوء واستمرار أزمة السيولة النقدية في البلاد "حدث ذلك بشكل خاص بعد تراجع أسعار النفط العالمية قبل سنوات، فاتجهت الحكومة حينها نحو الاقتراض الخارجي والداخلي من المصارف لتأمين الرواتب بعد سن البرلمان لقانون يسمح لها بالاقتراض لمدة محدودة".
ويربط اللامي فقدان الثقة بالقطاع المصرفي من قبل المواطنين بضعف البنية التحتية للأنظمة المصرفية بجميع أنواعها وعدم مواكبتها التقدم الالكتروني في مجال الصيرفة "الى جانب عدم مشاركة المصارف الحكومية والأهلية في بناء البنية التحتية الاقتصادية اذ أن الفوائد التي تفرضها على القروض عالية وهي بذلك لا تدعم الاستثمار".
ويطرح اللامي سبباً آخر يدعو الكثير من المواطنين إلى تجنب حفظ أموالهم في المصارف الحكومية أو الأهلية وهو "افتقار النظام المصرفي إلى تشريع قانوني يضمن الودائع في البنوك على الرغم من تقديم مسودة هذا القانون في الدورة البرلمانية السابقة 2014-2018 لكنه بقي في أدراجه، لذا لن ينجح القطاع المصرفي في كسب ثقة المواطنين".
ويستدل في ذلك، إلى نسبة ما يتم ايداعه في المصارف العراقية من مجمل السيولة النقدية "هناك 38 تريليون دينار متداولة في الأسواق من أصل 80 تريليون دينار سيولة نقدية، أما ما موجود في المصارف الحكومية والأهلية فلا يتجاوز الـ20 تريليون دينار، والباقي (نحو 22 تريليون) مخزن لدى التجار والمواطنين في منازلهم".
ويلفت إلى أن البنك المركزي العراقي وكمحاولة لمعالجة ذلك تولى في 2019، مهمة الاشراف على تأسيس الشركة العراقية لضمان الودائع وفق قانون الشركات رقم 21 لسنة 1997 "ساهمت المصارف الحكومية بنسبة 25% في هذه الشركة، بينما ساهمت المصارف الأهلية والفروع الأجنبية وهيأة التقاعد الوطنية وشركات التأمين الوطنية بنسبة 30%، أما نسبة الـ45% الباقية فطرحت للاكتتاب العام".
لكن تلك الشركة بالأطراف المتعددة المساهمة، لا يمكن أن تحظى بالثقة. ويعتقد الخبير الإقتصادي آلان ممتاز، أن شركات "ضمان الودائع" يجب أن تكون حكومية بنسبة 100% وتستمد ثقتها من امكانات الحكومة المالية "بغية تغيير سلوك البنوك التجارية ومنعها من النزعة الاحتكارية والمقامرة بودائع المواطنين" على حد تعبيره.
ويواصل:"بدلا من ذلك، تأسست شركة ضمان الودائع لتكون شركة مساهمة مختلطة تهدف الى الربح، وحسب بنيتها الحالية فأن للبنوك الحكومية والأهلية المحلية والأجنبية حصة كبيرة من خلالها يمكنها توجيه ادارة هذه الشركة".
ويوضح:"أي أن الشركة التي يفترض بها أن تكون رقيبة على البنوك، هي في الحقيقة غير قادرة على القيام بذلك من الناحية العملية، كون البنوك مساهمة فيها، كما أنها غير محصنة من الادارة السيئة والافلاس كأي شركة أخرى لأنها هادفة للربح، فكيف تضمن ودائع المواطنين ان هي أفلست؟".
ويلفت إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية التي هي بلد ايديلوجيا السوق الحرة الأول في العالم "لكن شركة تأمين الودائع فيها مملوكة للدولة بنسبة 100% لضرورة سيطرة الدولة على مثل هذه الشركات لضمان تحقيق أمن اقتصادي اكبر للمودعين".
خلال السنتين الأخيرتين، طالت عقوبات امريكية العديد من البنوك العراقية لتعاملاتها "غير الشرعية" المتمثلة بغسيل الأموال وتهريب الدولار الى ايران الخاضعة لعقوبات دولية.
وتحت الضغط الأمريكي، قرر البنك المركزي العراقي حرمان 22 مصرفا محليا من التعامل بالدولار، لما تصفه "بعدم امتثالها للقواعد المصرفية" أو لمتطلبات تحسين أدائها، وبالتالي تم منع تلك البنوك من المشاركة في المزاد اليومي للدولار الذي ينظمه البنك المركزي الذي يعد المصدر الرئيسي للعملة الصعبة.
تلك العقوبات التي تزامنت مع ارتفاع سعر صرف الدولار وتراجع قيمة العملة العراقية، أدت الى ظهور سعرين مختلفين للعملة العراقية، حيث يبلغ سعر الصرف الرسمي 1320 دينارا في حين يباع الدولار بسعر متوسطه 1500 دينار للدولار الواحد.
وأدى ذلك الاضطراب في التعاملات المصرفية والاختلاف الكبير بين السعرين الرسمي والفعلي، الى عجز غالبية البنوك عن دفع أموال مودعيها بالدولار بما فيها حوالاتهم المالية، نتيجة عدم توفر السيولة لديها، فتزاحم آلاف المودعين طلبا لأموالهم، وقررت بعض البنوك، وفي مخالفة لتعليمات البنك المركزي، دفع تلك الأموال بالدينار وبالسعر الرسمي، ما يعني خسارة المودعين لنحو 15% من أموالهم المودعة.
هشاشة النظام المصرفي وتخلفه، والتقلبات السريعة في الضوابط والتعليمات، ومخاوف العقوبات والافلاس، تدفع العراقيين بنحو عام الى الابتعاد عن ايداع أموالهم في البنوك.
يُفضل، حسن شفيق (27 سنة) وهو مندوب مبيعات مواد غذائية من بغداد، وضع أمواله في المنزل، مؤكدا عدم ثقته بالبنوك "هي تفلس في غمضة عين" يقول ذلك ضارباً كفاً بآخر.
ويضيف:"اشتريت خزنة نقود حصينة وخبأتها جيداً في مكان آمن، فأنا لن أودع ما أدخره في أي مصرف أياً كانت المغريات، ثقتي بالحكومية منها معدومة بسبب الأزمات المالية في بلد اقتصاده ضعيف وهش، أما الأهلية فتعتمد على اقتصاد مالكيها ولا أضمن أن استرد أموالي إن أخذها صاحب المصرف وقرر الهرب بها".
ويشرح ما يفعله بالفائض المالي الذي يحققه:"ما أن أدخر مبلغاً يكفي لشراء قطعة أرض أو شقة أو منزل صغير فلن اتردد، فالعقار لا يفقد قيمته وليس أمامي سواه لأحتفظ أموالي وأضاعفها ان تمكنت".
المصدر: شبكة نيريج
أقرأ ايضاً
- "شرعية" مفوضية الانتخابات على المحك.. هل يلجأ البرلمان للتمديد؟
- متى يلجأ العراق لطرح عملة الـ100 ألف؟
- بعد إنفاق 100 مليار دولار.. العراق يلجأ إلى الشمس لإنتاج الكهرباء