وقف في محله متحاملا على سبعٍ بعد سبعين عاما وارتدى نظارتين طبيتين لفتا بلاصق وكأنها جزء من وجهه، وامسك بالشعلة في يمينه ليذيب الذهب ويطوعه ويشكل منه ما يريد ان يصنعه، رجل كربلائي دخل صانعا الى عالم الذهب وعمره (15) عاما، ومضى عليه في المهنة الى الآن اكثر من ستة عقود من الزمن، تخرج من تحت يديه الكثير من الصاغة المشهورين في كربلاء، وعاصر الكثير من الاحداث والتقلبات والحروب، ويعتبر واحدا من اقدم صائغي الذهب في مدينة كربلاء المقدسة وجزءً من تاريخ المدينة القديمة.
منذ ايام الصبا
يسرد السيد "كاظم محـمد جواد البازي" لوكالة نون الخبرية تاريخه مع الذهب ويقول" ولدت في منطقة باب الطاق في العام (1947)، ثم سكنت في منطقة باب السلالمة وحاليا في حي الحسين، ودرست في مدرسة السبط التي كانت تسمى مدرسة الجعفرية قديما وكانت قرب مقام الامام المهدي (عليه السلام)، وكان جد جدي "درويش" يعمل "كليدار" في العتبتين المقدستين في عهد الدولة العثمانية وكاد ان يتعرض للقتل على ايدي الصفويين، فترك مهنته والتحق مع اليهود ليعمل صائغا واخذ المهنة من بعده جدي ثم والدي وأخرهم انا ويمتد عمر عائلتي في مهنة الصياغة الى حوالي (250) عاما ونعتبر من اقدم العائلات حاليا في هذه المهنة، وكنت ارافق والدي وعمري (6) سنوات الى العاصمة بغداد يبيع ما يصنعه الى اليهود الذين تعرضوا فيما بعد للتهجير والتسفير، ومارست المهنة كصانع وعمري (15) عاما اي قبل (62) عاما، وانتقلت للدراسة المسائية لاستمر بالعمل".
اول محل
ويشير البازي الى ان" بداية عمله كان في محل يقع بـ "عكد الاخباري" نهاية شارع صاحب الزمان، في بناية "قيصرية الصاغة " وبدأت عملي مع صاغة من اصول ايرانية، وكنت اصنع انواع من "التراجي" مثل "صباح الخير ، وجوزة ، وشبانة، وحابس "ابو الراديو" ، وسبح وبراقات، حتى وصلت الى صناعة الحجل واصبحت صائغا يشار له بالبنان، وعملت مع اشهر الصاغة في حينها وهم الاخوين حسنين ومصطفى الحسني وكان خالي يعمل صائغا معهم، ومن بين الصاغة المشهورين جواد مهدي وجواد كشفي المشهور بـ "جواد قاجاني" الذي ابعد في نهاية السبعينيات الى ايران، ومن المشهورين ايضا الصاغة اصغر ابو القاسم، ورضا يونس، ورضا هندي، ورشيد وحسين شكرجي".
اسعار الذهب قديما
انتقلت الى عكد الداماد هكذا يكمل البازي حديثه ويقول" بعدها انتقلت الى شارع الامام علي (عليه السلام) ابيع واشتري الذهب، وفي سبعينيات القرن الماضي التحقت بالخدمة العسكرية لمدة سبعة اشهر وكانت وحداتي العسكرية في الاردن، في مناطق (H4) و(H5) ومدينة الزرقاء، ودفعت مبلغ بدل الخدمة العسكرية لاعود الى عملي، واتذكر اول كيلوغرام من الذهب اشتريته من البنك المركزي بمبلغ (420) دينار لان محلي كان داخل سوق، وكنا نبيع مثقال الذهب بدينارين و(500) فلس، من عيار (22) حبه ولم تكن حينها المؤسسة موجودة، واصبح بعدها عيار (21،18)، وبعد ان اصبح محلي على شارع عام زادت حصتي من الذهب الذي اشتريه من البنك الى كليوغرامين، ثم ارتفع سعر كيلوغرام الذهب الى خمسة الاف دينار في ثمانينيات القرن الماضي، ثم فرضت علينا الضرائب وتراكمت مبالغها حتى اضطررت الى بيع دارا سكنية لتسديها، وكان زبائننا من كربلاء وبغداد وعدد من المحافظات، وكنت ارسل الكثير من الحلي التي اصنعها لبيعها في سوق الشابندر لبيع الذهب بالجملة في العاصمة بغداد لما فيها من اتقان وحرفية، وكنت ارسل الزناجيل العادية وزناجيل الليرات والزرارات والظفائر".
دخلاء على المهنة
ويؤشر البازي في حديثه الى حالة التراجع التي اصابت المهنة بقوله" وفي زمننا الحالي وبعد ان فتح الاستيراد على مصراعيه لاشخاص يملكون المال ولا يعرفون مهنة الصياغة تراجع عملنا كثيرا، حيث اصبحت الحلي الذهبية تستورد من الخارج وبمواصفات رديئة ولا يوجد فيها متانة لان وزنها خفيف ليس كما كنا نصنعه نحن في العراق، وظهرت عمليات الغش في صناعة الذهب ويباع على انه عيار (21)، وكان في مدن كربلاء والنجف والكاظمية اهم اسواق الصاغة، وحتى المشاهير يأتون ليقتنوا حليهم الذهبية من محالنا، والصاغة القدماء يحرصون على تعليم المهنة الى صناعهم، وانا علمت (14) صانع على مهنة الصياغة واصبحوا صاغة يشار اليهم بالبنان ومنهم (8) صاغة من اصول ايرانية تم تسفيرهم في نهاية السبعينيات، والستة الباقين قضى خمسة منهم نحبهم في الحرب وبقي واحد على قيد الحياة هو ابن خالي "ابو حامد".
بقايا مهنة
لم تسير الامور مع البازي كما كانت عليه سابقا فيؤكد انه" ترك العمل كصائغ متخصص بصياغة وبيع الذهب، واصبح عمله الان اصبح بيع الفضة وصنع القطع الذهبية حسب الطلب مثل الخواتم او الملاوي او الجناجل او اصلاح المكسور او المتضرر من القطع الذهبية، لان مهنة صياغة الذهب تعتمد على تدوير الاموال، واصبح الكثير من الزبائن لا يسددون ما بذمته من ملايين الدنانير، وكذلك تأثير الغش في المهنة على مصداقية عملنا، مع اننا كنت تعرض علينا عملات ذهبية تاريخية من العصور العباسية او الاموية وهي غالية جدا، وكنا نسلمها الى الجهات المختصة، واكثر من يشتري الذهب هم البدو عند شراء نيشان العروس الذي يسمونه (كي العروس) ويتكون من قلادة ام الليرات وتراجي (مطر) وزرار وحجل فضة (حسب معتقداتهم انها تمنع الجن والتابعة) ويصل سعر النيشان بين (100 ــ 120) دينار وهو رقم كبير حينها، ومن بين التسهيلات التي تقدم للزبائن كان والدي يتفق مع اهالي "الجرية" ويجهزون نيشان العروس مقابل التمر الذي كنا نضعه في خان عصفور بباب السلالمة ثم نبيعه الى التاجر "عبد الحسين جيته" ويقوم بتخصيفه وتصديره الى الهند، اما اكبر كمية اشتراها شخص واحد فكانت في خمسينيات القرن الماضي في عهد الحكم الملكي بالعراق عندما كنت اعمل عند الصائغ شاكر البازي طلب مني المرحوم زبن ابن هذال صياغة كيلوغرامين من الذهب لفرسه الاصيل على شكل قلائد وليرات، وكانت مكافئتي منه (عشر دنانير) وسعر المثقال حينها دينارين".
قاسم الحلفي ــ كربلاء المقدسة
تصوير ــ عمار الخالدي
أقرأ ايضاً
- بدعم كامل من العتبة الحسينية المقدسة اجراء (1701) عملية جراحية خاصة ضمن برنامج الاستقدام والاخلاء الطبي
- عشيرة قدمت (100) شهيد :عائلة لبنانية تروي قصة استشهاد ولدها "محـمد" المتميز منذ طفولته
- فرع كربلاء لتوزيع المنتجات النفطية: الخزين متوفر والمولدات الاهلية تتسلم كامل حصصها من الكاز هذا الشهر