- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الأخلاق وأثرها في الجانب الروحي ـ الجزء الثالث عشر
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
ـ الأخلاق وأثرها في الجانب الروحي:
الأخلاق مجموعة من قواعد ونظم تحكم السلوك البشري والتي لها الأثر الكبير في صيانة شخصية الإنسان الروحية والمعنوية سلباً وإيجاباً، فالرذائل الأخلاقية كالكذب والغيبة والظلم والعجب والتكبر والحقد والسرقة والغش وأكل مال الغير والقتل, كلها تحطم القيم المعنوية في نفس الإنسان، وبالتالي تكون سداً منيعاً من توجه الإنسان وارتباطه بالله تعالى.
حيث أن أحد سبل الحفاظ على المكاسب المعنوية التي حصل عليها طوال حياته هو الخلق الحسن، بل إنها تعتبر مصدراً مؤمناً على الجانب الروحي بل يقوم بتصعيده وتكثيفه تدريجياً، وقد أشارت الروايات الشريفة الواردة عن النبي (صلى الله عليه واله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) الى هذا المعنى، فعن النبي(صلى الله عليه واله) أنه قال: (أن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وأنه لضعيف العبادة)، فهذه الرواية بينت أن حسن الخلق سلم يرتقيه الإنسان لنيل الدرجات العالية في الآخرة وإن كان ضعيف العبادة.
وفي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيها: (روضوا أنفسكم على الأخلاق الحسنة، فإن العبد المسلم ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، فنجد أن قضية الأخلاق مساحة كبيرة من الأهمية سواء في القرآن الكريم أو في نهج البلاغة أو في الصحيفة السجادية أو في مجمل الروايات الشريفة عنهم (عليهم السلام).
والعكس ما نجده من آثار سلبية تنعكس على الجانب الروحي عند الإنسان, فالكذب والغيبة والكبر والحسد الحقد, كلها رذائل أخلاقية تحطم القيم الروحية عند الإنسان، فنلاحظ الروايات كيف أنها نظرت الى هذه الرذائل وحذرت منها، فعن النبي(صلى الله عليه واله) أنه قال: (من اغتاب مسلماً لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة إلا أن يغفر له صاحبه). وعن الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً: (الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر..).
فالأخلاق الحسنة سلم الى القيم الروحية، والعكس في الأخلاق السئية فإنها منحدر خطير ويهدم الجوانب الروحية والمعنوية عند الإنسان، بل قد تكون سبب لكفر الإنسان.
ـ الدنيا تؤهل الإنسان للحياة الروحية:
للإنسان حياة هي ما وراء تلك الحياة المادية، حيث أن هذه الحياة لا تكون منتجة ولا ترقى بالإنسان في الحصول على الكمال بل هناك حياة أخرى, وهذه الحياة هي التي نادت بها الرسالات الإلهية ودعى إليها الأنبياء عليهم السلام, حتى أنه قد جعلت الغاية لهذه الحياة هو تأهيل الإنسان للحياة المعنوية وتربي وتنمي فيه تلك الجوانب غير جوانب المادة الصماء.
فهذه الحياة لابد أن تستجمع كل الكمالات فيها لكي تؤهله لذلك، وهذا المعنى لا يتحقق إلا بالإرتباط بالله عزوجل مع ظرفية الحياة المادية التي ستكون مهداً له، لأن الله تعالى أصل كل الكمالات ومنبع كل خير ،فمن أراد الحصول عن تلك الكمالات لابد من توثيق الإرتباط بالله تعالى من خلال العبودية له والطاعة والتسليم له والإمتثال لأوامره والإزدجار عن نواهيه، ووفق هذه القاعدة اهتم الإسلام بهذا البعد (تنمية الجانب المعنوي) أكثر من أي بعد آخر, فبين المفهوم الحقيقي لمعنى الحياة واعتبر الحياة الدنيا قنطرة وممر ومتاع بل وصف المتاع بأنه متاع الغرور وشجب الركون الى الدنيا، قال تعالى عن لسان أحد انبيائه: (ياقوم إنما الحياة الدنيا متاع والآخرة خير وأبقى) وقال تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) وقال تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). فبين أن حقيقة هذه الحياة ليست في بعدها المعيشي بل أن حقيقتها هي مقدار علاقة الأنسان بربه تعالى، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا حياة إلا بالدين ولا موت إلا بجحود اليقين) فبين الإمام (عليه السلام) أن الدين هو أس الحياة وأنه لا معنى حقيقي للحياة بدون الدين فالدين هو قوام الحياة والذي يمدها بالطاقة والحركة والعمل المنتج وسيادة فضائل الأخلاق في المجتمع. فالأديان الإلهية كلها أعطت معنى الحياة للإنسان من خلال ارتباطة بالدين وبالله. وعندما يعمر الإنسان حياته به فحينها تتقوم حياته وفق المنهج الإلهي.
وأيضاً ما ورد في أدعية مولانا الإمام زين العابدين (عليه السلام): (فاحييني حياة طيبة تنتظم ما أريد وتبلغ ما أحب من حيث لا آتي ما تكره ولا أرتكب ما نهيت عنه). فالإمام (عليه السلام)هنا يبين أن شرطية الحياة الطيبة وسعادتها لا تتحقق إلا بامتثال الأوامر الإلهية والإجتناب عما نهى عنه تعالى، هذه الشرطية هي التي تحقق معنى الحياة حيث أن القران وصف الإيمان بالله كقاعدة للحياة الطيبة كما في الآية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
ـ الجرأة على ارتكاب المعاصي سبب في التراجع الروحي:
إن المشكلة التي يعيشها الإنسان هي مشكلة الخروج عن خط الفطرة والإستقامة والجنوح الى خط الرذيلة والإنحراف هي مشكلة ليست مشكلة العصر فحسب بل هي مشكلة عاشها الإنسان منذ نشأته الأولى وإلى اليوم، وهي ما نسميها (فلسفة العصيان والتمرد)، لذا كان من اللطف الإلهي ورحمته أن أرسل الرسل والأنبياء لأجل وضع الحلول لهذه الإشكالية. فوضعت الحلول من الداخل، أي تصحيح وتطهير باطن الإنسان ومن الخارج، أي السلوك والعمل. ومن الواضح أن واقع الإنسان وسلوكه يعتمد على أساس الداخل، أي الباطن النفسي لذا ركزت وعالجت روح الإنسان ونفسه لأنها مركز لأي عمل وسلوك في ساحات العمل الخارجي بل إن استقامة الإنسان يعتمد على ذلك الباطن (قلب الإنسان ونفسه) فصرحت الشرائع الإلهية ومنها القرآن الكريم أن فلاح الإنسان هو تلك البداية. قال تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).
إذن.. تزكية النفس هذا المصطلح القرآني هو علاج لكل مشاكل الإنسان وقد أشارت النصوص الروائية الواردة عن النبي (صلى الله عليه واله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) فعالجت هذه المشكلة وأن بداية ترك المعصية والحرام منشأه هو صيانة النفس وتهذيبها ،فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أن النفس لأمارة بالسوء فمن أهملها جمحت به إلى الماثم), أي قادته وأخذت به إلى ارتكاب المعصية والذنب حين الإهمال. وأيضاً ما ورد عنه (عليه السلام): (لا ترخص لنفسك في مطاوعة الهوى وإيثار لذات الدنيا فيفسد دينك..).
إذن.. الإهمال والترخيص للنفس هو منشأ ارتكاب المعصية والوقوع في المهالك فترك الحرام مترتب ومستند على صلاح النفس ،بل إن الأثر في الآخرة بينه القران الكريم هو نتاج وحصاد لزرع النفس في الدنيا، قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)، وأهل بيت العصمة (عليهم السلام) هم الذين يضعون خريطة الحياة ورسم ذاك البرنامج لعلاج تلك المشاكل، فهذا الإمام زين العابدين (عليه السلام) في إحدى مناجاتة وهو يعلمنا سلوك الطريق الصحيح وتشخيص المشكلة التى هي أس المشاكل فيقول: (إلهي أشكو اليك نفساً بالسوء أمارة والى الخطيئة مبادرة وإلى معاصيك مولعة...).
إذن.. السوء والخطيئة والمعصية سببها إهمال النفس فهذا الإهمال سبب في ارتكاب المحرمات والمعاصي، وهذه الموبقات والمعاصي ستؤثر سلباً في إحداث النكوص الروحي عند الإنسان، وهذه مشكلة حقيقية سيواجه الإنسان آثارها المترتبة عليها فلابد من معالجتها قبل أن تستفحل وبالتالي تصبح استحالة أو صعوبة التغيير وأعادة النفس الى خط الفطرة والإستقامة وفق الموازين الشرعية.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول
- البكاء على الحسين / الجزء الأخير