بقلم: طالب عباس الظاهر
كان للمسجد في يومٍ ما، ببداية المسيرة الظافرة للإسلام، خاصة على عهد النبيّ الأكرم ووصيه أمير المؤمنين (عليهما أفضل الصلاة والسلام) كأعدل حاكمين في التاريخ؛ أقول كان للمسجد دور محوري لإصلاح الأمة، وتقويم لوجود الإنسان في الحياة، وتأمين لمستقبله ما بعد الممات، وكان بمثابة (سلطة تشريعية) بمفهومنا الحالي، تُمارس فيه المصطلحات العصرية الحديثة كالحرية والديمقراطية والتعددية والمساوات وغيرها. وليس التعاطي معه كمكانٍ للعبادةٍ فحسب.. بل كان في المسجد يقام أيضاً ديوان الحكم الرؤوف بالرعية (سلطة تنفيذية)، إذْ إن الحاكم يستشعر وهو في ضيافة الله وفي بيته، ضعفه بإزاء جبروت شديد القوى الجبّار المتعال، وكان فيه يُنصب كذلك مجلس القضاء العادل (سلطة قضائية)، حيث يدرك القاضي بأنّه إنما يقضي تحت نظر الخالق البارئ المصوّر، وإنّ الشدّة في وقوف الناس بين يدي القاضي في محكمة الأرض، لا يمكن أن تقارن بشدة وقوفه بين يدي الله في محكمة السماء، وإنه إنما اليوم يقضي بين الناس، وغداً يُقضى للناس منه!. لذا صار المسجدُ جامعة الإسلام الشاملة لطلّاب العلوم والمعارف بشتّى صنوفهما، وملتقى مريدي الأدب والحكمة والأخلاق، منه يخرج الحق وفيه ينتهي الباطل، فيه يأمن الضعيف المسكين على حقه من القوي المتنفذ، ولو كان يقاضي الحاكم أو قاضي القضاة نفسه، ويقلق ويشفق على نفسه الوجيه الميسور ذي الحسب والنسب خشية أن يكون قد قصَّر في الإنفاق من ماله بحق السائل والمحروم. نعم، كان المسجد بيت المؤمن، ومكان عمله، وحديقة روحه، وبقعة أمله، وعروة تعلّق قلبه، ومثابة مناجاة روحه، تهفو إليه نفسه وتشتاقه، لأنه باب ضيافة الله لعباده، يستشعر فيه بحفاوة استقبال الملائكة ومباركتها له، ويجد فيه الفسحة النافذة التي يرنو من خلالها إلى نعيم الآخرة المقيم. حتى غدا المسجد الملجأ الوحيد للهفة نفس المؤمن وواحة خلاصه؛ لأنه يجد فيه الراحة من جهد التعب، والسكينة من القلق، والأُنس من وحشة الخراب، والأمن من وحشية النفوس.. اللاهثة وراء سرابات الحياة.. الناهش بعضها بلحم البعض الآخر بمخالب الطمع، وأنياب الجشع، ويجد الأمان فيه من شراستها وشراهتها، فيشعر المؤمن بقمّة السعادة والسكينة والهدوء والرضا والتسليم في كنفه، ترطب خاطره مواساة الإخوان في الله، والحب الطاهر من قبل الصحب ورفاق درب الإيمان؛ كونهم ينظرون لما في يد الخالق الغني، وليس لما في يد المخلوق الفقير، فيكون حينئذ الصدق في الكلام، والإخلاص في النية، والوفاء في العهد، والإيثار في الطوية، والمسابقة إلى الخيرات. لكن ومما يؤسف له حقاً انحسار دور هذا الصرح الروحي العظيم، والمكانة السامية للمسجد في عصرنا الراهن، وانحصاره إلى أضيق ما يمكن أن يكون له من دور كبيت عبادة فحسب، وحتى هذا أيضاً قد بدأ ضعفه أيضاً شيئاً فشيئا، لتكون بيوت الله عامرة البناء غير معمورة بالنفوس، رغم إن بناء المسجد كان بسيطاً، غير إن دوره كبير على عكس الحاضر؛ فبنائه فخم ولكن دوره ضعيف.
أقرأ ايضاً
- رمزية السنوار ودوره في المعركة
- مكانة المرأة في التشريع الإسلامي (إرث المرأة أنموذجاً)
- أضواء على التدوين والكتابة قبل الإسلام