- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الثالث
بقلم: حسن الجنابي - وزير سابق .. من كتاب سينشر قريباً
لقد كانت ممارسات البعث ومواقفه مع الدول الأجنبية انعكاساً لمواقفه الداخلية من القوى السياسية والوطنية الأخرى. فمواقف البعث كانت تقوم على أساس المقامرة والمناورة والغدر بالمنافسين في أقرب فرصة يُعتقد انها لصالحه بغض النظر عن المواثيق الموقعة مع تلك الجهات.
ويزخر تاريخ البعث بأحداث ومواقف وانقلابات واغتيالات يصعب سردها، فضلاً عن انها ليست هدفاً لهذا الكتاب. ومن تلك المحطات، على سبيل المثال، الإطاحة بشركاء البعث في انقلاب 17 تموز 1968 من العسكريين بعد اسبوعين من نجاح الإنقلاب، ولاحقاً خوض الحرب مع الحركة الكردية ثم توقيع بيان آذار 1970، وما تبعها من محاولة غادرة لإغتيال الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني عن طريق وفد زائر بتاريخ 29/9/1971، وكذلك التنكيل بالشيوعيين برغم التحالف الموقع بين الحزبين عام 1973 وهلم جرّا.
أعتقد بأن سجل الإغتيالات والتصفيات التي جرت لقادة حزب البعث وكوادره كان كبيراً، وبالخصوص منذ تسلم صدام حسين للسلطة في العراق، وهو معروف بنهج الغدر بأقرب الحلفاء والشركاء. وربما تكون قائمة الضحايا من حزب البعث أكبر من أية قائمة للتصفيات السياسية من أي حزب آخر.
كان لا بد من أن يكون أغلب موظفي وزارة الخارجية في المركز أو في البعثات ممن يجيدون لعب الأدوار الخاصة التي تحتاج معاييراً وخصالاً شخصية وولاءً سياسياً لا لبس فيه. ومن أجل ذلك الهدف فقد أحكمت مغاليق الخارجية وحوصرت الشخصيات المستقلة، او المشكوك في ولاءها، وأزيحت تدريجياً أو تعسّفاً عن مراكز القرار أو مسارات المعلومات السرية والمراسلات بين المركز والبعثات. والتحق عدد من تلك الشخصيات بالمعارضة في أقرب فرصة أتيحت لهم ومنهم سفراء وموظفون كبار. مع ذلك فقد استمرت قدر الإمكان تقاليد “احترام” معايير الترقية والعمل في ميدان الخدمة الخارجية، ووفرت وسائل التدريب وتطوير القدرات وشجّعت على تعلم اللغات الأجنبية لكنها بالطبع جعلت الولاء الحزبي أكثر المعايير حسماً في هذا الميدان.
كان النشاط العراقي في الخارج يُدار من داخل مقرات السفارات والبعثات الدبلوماسية العراقية. صحيح ان الأمر ينطبق على الكثير من سفارات الدول الأخرى، ولكن في السفارات العراقية لا صوت يعلو فوق صوت المخابرات. فلم تكن مهام السفارات العراقية هي المهام الدبلوماسية المعتادة بقدر ما كانت لها أهدف محددة تتعلق أساساً بجوانب أمنية تجسسية وتسليحية واغتيالات، وإن غالبية الأنشطة الأخرى، بما فيها التجارية، متعلقة بتعزيز وتسهيل تلك الأدوار المناطة بالسفارات.
لهذا السبب كانت مقرات السفارات العراقية بالنسبة للمعارضين مخيفة الى حد الرعب. ولم يغامر أي معارض عراقي حينها حتى في المرور في الشارع أو الحي الذي تقع فيه السفارة العراقية في البلد الذي يقيم فيه خوفاً من الإختطاف أو القتل.
ولذلك لم يكن مستغرباً، على سبيل المثال، استهداف السفارة العراقية في بيروت في اواسط كانون الأول عام 1981 بالتفجير بعملية نوعية غير مألوفة، أحدثت انقلاباً هائلاً في استخدام العمل العنفي الإنتحاري في العمل السياسي. فبيروت كانت ساحة صراع بين شبكات المخابرات الدولية، وكان تفجير السفارة العراقية وتصفية كادرها يصب في مصلحة أكثر من طرف واحد. ويظهر فعلاً من المعلومات المتداولة بأن الجهة العراقية التي نفذت التفجير كانت قد تلقّتْ دعماً لوجستياً من أكثر من طرف واحد.
كذلك جرى اقتحام، عُدّ في وقتها جريئاً، للسفارة العراقية في برلين من قبل مجموعة عراقية معارضة بقيادة المعارض آنذاك، الذي أصبح فيما بعد سياسياً معروفاً مثال الآلوسي. مع فارق ان تفجير السفارة في بيروت كانت أهدافه أمنية وتصفية ما كان يعتقد انه وكرٌ خطيرٌ للمخابرات وذراع تنفيذي للإغتيالات. في حين ان الهدف من اقتحام السفارة العراقية في برلين كان سياسياً لإيصال صوت المعارضة الى الرأي العام. في كل الأحوال فان تفجير البعثات الدبلوماسية او إقتحام مقراتها هي أفشل الوسائل التي يمكن ان تلجأ لها المعارضة، إذ لا تسهم في تحقيق الأهداف السياسية. وبذلك تكون تلك الأفعال فاشلة، مثلها مثل خطف الطائرات المدنية او البواخر فضلاً عن العمليات الإنتحارية التي تستهدف التجمعات البشرية.
خصص صدام حسين في ذلك الوقت أموالاً طائلة للصناعات الحربية وتولى حسين كامل، ابن عم صدام وصهره، مهمة التصنيع العسكري قبل مقتله. وكانت “الإمبراطورية” التجارية التي أسسها تقوم بتنفيذ ذات الاهداف المخابراتية المافيوية الطابع، في نموذج “هوليودي” لإختلاط المال بالسلطة والتجسس والتنافس وغير ذلك من أنشطة لا تنتعش إلا في الحروب.
كانت واجبات موظف الخدمة الخارجية معروفة سلفاً بشقّيها السياسي والدبلوماسي. ففي شقها السياسي هي دروس وتعليمات صارمة وخط شديد الوضوح لا يقبل الإجتهاد، مستمدة من ايديولوجية البعث بشعاراتها الفاقعة التي كانت تطغى على الوضع الداخلي ايضاً.
فقد كانت شعارات البعث الشغل الشاغل لماكنة الدولة والحزب الحاكم على مختلف المستويات وفي كل الوزارات والمؤسسات الحكومية. وهي في نسختها الصدّامية، التي سادت في العقود الثلاثة الأخيرة من حكم البعث وانتهت بإسقاطه، كانت تجري تحت سطوة القمع والطغيان. وجرت في ضوئها إعادة تعريف لمعطيات البلاد المعروفة وأحداثها وتاريخها بما يلائم الفكرة السائدة المسوَّقة بشعارات “ثورية”، ثم أخرجت بصيغ الولاء المطلق لإرادة رجل واحد ونزواته وشكوكه.
أما في شقها الدبلوماسي فقد كانت الواجبات الدبلوماسية تعتمد حشد العلاقات الداعمة للتوجهات الحكومية وشعاراتها وسعيها لترسيخ زعامة العالم العربي، وربما العالم الثالث مهما كان الثمن. وكانت تسعى في سبيل ذلك الى المزيد من الإستقطاب، الإنشقاقي بطبيعته خاصة في الفضاء العربي والفلسطيني على وجه التحديد، وهو الفضاء الأقرب لتحقيق نزوات صدام حسين ومغامراته العنيفة.
وفي الحالتين كان التجسس والتنصت والرقابة وكتابة التقارير عن سلوك وأداء جميع أفراد البعثات، بدءً من السفراء وانتهاءً بسوّاق السفارة وحرّاسها، هو النشاط الأكثر وضوحاً لتأمين تحويل البعثات الى آلات صغيرة في ماكنة دولة المخابرات والإيديولوجية البعثية، التي يتجسس فيها الجميع على الجميع، ويكون فيها الخادم أقوى من رب البيت والسائق أقوى من السفير. ومن غرائب الدبلوماسية في عهد البعث، وللمزيد من “التجسس” على سفراء العراق في بعض الدول كان سائق السفير يرسل من بغداد، ودون أية معايير مثل اللغة او معرفة العواصم وغير ذلك.
ويروي السفير الراحل وهبي القرغولي في مذكراته المنشورة “محنته” في حضور الفعاليات الدبلوماسية مع سائقه المرسل اليه من بغداد الى لندن. فقد كان مضطرّاً الى تأجير سيارة “تاكسي” تسير أمام سيارة السفير التي يقودها السائق “المبتعث” لأن الأخير لا يعرف شوارع ومناطق لندن.
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟