- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الرابع
بقلم: حسن الجنابي - وزير سابق / أجزاء من كتاب سينشر قريباً
كان السفير محدّداً بتوجهاتٍ وتوجيهاتٍ صارمة تهدف الى “تبييض” ممارسات الحكومة العراقية والدفاع عنها، وتكذيب ما يشاع وينشر ضدها مهما كانت طبيعته، ومهما اختلف ذلك مع الوقائع وحجم الإنتهاكات الموثّقة.
وقد أكدت مذكرات بعض سفراء ذلك العهد وقائع عن تورطهم في تكذيب حقائق كانوا يعرفونها تماماً، كما جاء في مذكرات السفير محمد صادق المشاط المنشورة عام 2008. فالرجل شغل منصب سفير العراق في واشنطن، وروى أنه كان مضطراً “لتكذيب ما هو واقع فعلاً في العراق”. وأنه لم يكن مرتاحاً لتوجيهات الخارجية العراقية للتصدي للحملات الإعلامية الموجهة ضد العراق.
روى المشاط كذلك في مذكراته انتهازية موقف صدام حسين ولا مبدأيته إزاء اسرائيل والقضية الفلسطينية. واستشهد بالتوصيات التي تلقاها حينها من وزير الخارجية طارق عزيز ووكيله نزار حمدون قبيل التحاقه بعمله في واشنطن، وذلك بعدم التعرض لإسرائيل أو انتقادها. وكانت تلك محاولة كانا يعتقدان انها تسهم في “تحييد” الموقف الأمريكي عندما كان صدام حسين ينوي غزو الكويت. من اللافت بأن التوصيات كانت تناقض المواقف المتشددة التي كان يطلقها صدام حسين ضد الولايات المتحدة، بل انها كانت تعكس نزوعه المفرط نحو المصالحة مع الولايات المتحدة، كما ذكر جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي في مذكراته، الذي أقرّ فيها أيضاً بأن تهديدات صدام حسين بحرق نصف إسرائيل هي التي تسببت أساساً بتغيير كبير في موقف الولايات المتحدة منه.
أصبح العراق في العقود الأخيرة من حكم البعث دولة مخابرات وتجسس، داخلي على المواطنين والحركات السياسية، بمن فيهم أفراد الحزب الحاكم، وخارجي على الدول والأوساط المختلفة بهدف كسبها واستخدامها، أو تحييدها أو شقّها عن انتماءاتها وإصولها من أجل إضعاف الخصوم.
كانت الخارجية العراقية في الحالتين لاعباً أساسياً في مسيرة البعث. ومنذ أولى سنوات حكم البعث كان ثمة دفعٌ محسوس، ولكنه غير علني، بتحويل وزارة الخارجية من مؤسسة دبلوماسية عريقة لها واجبات سيادية محددة، وتمثل وجهاً معقولاً ومحترماً للعراق كدولة مؤسِّسة في نظام الأمم المتحدة، إلى أداة طيّعة وذراع ملحق بأجهزة المخابرات والتجسس.
لقد خلق البعث وأشاع ثقافة الشكّ والكراهية ضد كل ما هو أجنبي. على سبيل المثال كان العراق يخصص مرافقين خواص للصحفيين الأجانب الذين كانوا يزورون العراق لمرافقتهم أينما حلّو. والطريف ان غافن يانغ، مؤلف كتاب العودة الى الأهوار، الذي ترجمته شخصياً الى العربية ونشرته دار المدى، ذكر أن أحدهم رافقه في زيارته الى مناطق الأهوار لمراقبة افعاله ونشاطه. أما الصحفي البريطاني ذو الأصل الإيراني العامل في صحيفة الأوبزرفر فرزاد بازوفت، فقد دفع حياته ثمناً لمحاولة افلاته من “المرافق” وأعدم في 15 آذار 1990 بعد أن أجبر على الإعتراف بأنه جاسوس برغم التدخلات الدولية لإنقاذ حياته.
ولذلك فالخارجية العراقية، المعنية أصلاً بذلك الحيز من العمل الحكومي، كانت تعتبر من المؤسسات المشكوك في أداء عناصرها من الوزير حتى أصغر موظف، وهم جميعاً كانوا تحت المجهر بلا أدنى شك.
في ذروة صعودها الإستبدادي وتنامي قدراتها الأمنية ومواردها المالية في السبعينات من القرن الماضي، أعلنت حكومة البعث جملة إجراءات لإستقطاب الكفاءات العراقية العاملة في الخارج وإغراءها بالعودة الى العراق. فقد خصصت لهم منح مالية وسيارات فارهة وتعيينات في وظائف عالية، واشترطت على العائدين المتزوجين بالأجنبيات طلاق زوجاتهم وتفكيك علاقاتهم الأسرية.
ولا غرابة اذن في تعرّض عدد من وزراء الخارجية العراقية الى القتل غيلةً على ايدي أجهزة الأمن العراقية بدءً من الوزير ناصر الحاني ومروراً بعبد الكريم الشيخلي ومرتضى سعيد عبد الباقي وشاذل طاقة.
أما ناجي صبري الحديثي، وهو آخر وزير للخارجية قبل اسقاط نظام صدام عام 2003، فقد سبق لصدام حسين أن أعدم أخاه السفير محمد صبري الحديثي، بتهمة التآمر في فترة سابقة لتعيينه بمنصب وزير الخارجية، وكان محمد صبري شخصيةً بارزة شغل منصب وكيل وزارة الخارجية وسفيراً في الكويت وطهران. كما سجن شقيقه الآخر شكري الحديثي بنفس التهمة وكان سفيراً في المغرب. وبذلك فقد كان ناجي صبري الحديثي “مدجّناً” بإمتياز وفاقداً لمشاعره الأخوية وواجبه الإنساني اتجاه شقيقه المعدوم، وأثبت أن الكرسي في عهد صدام حسين أهم وأثمن من الشقيق أو أي شيء آخر. فحينها كانت العقوبات تلحق بأفراد عوائل وأقارب المعارضين، وخاصة من ذوي المعدومين لأسباب سياسية، لكن ناجي صبري مثّل استثناءً مُلغزاً من تلك القاعدة الصدامية.
استخدمت حكومة البعث السفارات العراقية كذلك للتخلص من خصومها في الداخل بتعيينهم سفراء بعد إزاحتهم من مناصبهم الوزارية. فصارت السفارات محطة انتقالية في حياة أؤلئك قبل التخلص منهم نهائياً بالإعدامات أو الإغتيالات أو الإهمال والإختفاء التدريجي. وهذا ما جرى لعبد الرزاق النايف وحردان التكريتي ومرتضى سعيد عبد الباقي وعبد الكريم الشيخلي وصالح مهدي عماش وحامد الجبوري وهشام الشاوي ومحمد صادق المشاط وغيرهم.
وبرغم النوايا المضمرة في التخلص من نفوذ وتأثير تلك الشخصيات وإبعادها عن مراكز القرار، فقد كانت تلك التعيينات تمنح بعض “الهيبة” للسفارات العراقية في الخارج وللسفراء أنفسهم لكونهم وزراء سابقين، على افتراض بقائهم أكثر قرباً من مراكز القرار في العاصمة.
في كل الأحوال كان هناك من هم أكثر قرباً من صدام حسين وأكثر نفوذاً في الخارجية، ولا شك فإن “السفير” برزان التكريتي، الأخ غير الشقيق لصدام ورئيس جهاز المخابرات العراقي لفترة طويلة، كان أكثر نفوذاً من وزير خارجيته.
فقد عيّن رئيساً للبعثة العراقية في جنيف ومثّل في نفس الوقت القناة المفتوحة بين صدام حسين والإيرانيين أثناء الحرب مع ايران، من خلال سفيرهم في جنيف سيروس ناصري. ومن البديهي لم يكن برزان يستلم تعليماته من وزير الخارجية، وليس ملزماً بكتابة تقارير نشاطاته الى وزارة الخارجية، برغم علاقة “الصداقة” مع طارق عزيز حسب تعبير الأخير أثناء محاكمته بعد 2003.
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟