- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003 إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الثاني
بقلم: حسن الجنابي - وزير سابق
كانت الخارجية العراقية في عهد البعث حتى سقوط نظامه عام 2003 ذات توجهات واضحة وبرامج محددة بإعتباراتٍ كثر، منها اعتبارات إيديولوجية الطابع، نابعة من «مبادئ» البعث ومنطلقاته الفكرية ومواقفه المعلنة، خاصة إزاء القضايا العربية والقضية الفلسطينية.
ومنها مرتبط بأداء الحكومة المبني أساساً على المخابرات والتجسس وخلق الأزمات وتجميع المعلومات ونسج العلاقات مع شركاء أو عملاء، إضافة الى تدبير وسائل الإحتيال على العقوبات الإقتصادية وتسهيل صفقات التسليح وغيرها، خاصة في العقدين الأخيرين من عمرها.
كذلك خَلقت مغامرات الحكم ومصائر السياسة في ذلك العهد، وهي بالأساس نابعة من القضايا او المنطلقات الفكرية المرتبطة بالتوجهات البعثية، محدداتٍ أخرى للأداء الدبلوماسي لا تقل حراجةً وخطورةً على مستقبل العراق، وما زالت نتائجها شاخصة للآن وتمثل تهديداً لإستقرار العراق والمنطقة. أكثرها خطورةً هي العلاقة مع الجوار الجغرافي الإيراني والتركي والخليجي، إضافة الى الإمتدادات وطموحات التغلغل والتأثير والزعامة والإلحاق في الجوار العربي حتى تخوم المغرب، وما يتجاوز ذلك الى "العالم الثالث".
فالبعث العراقي هو حزب يدعي انه يمثل “الجماهير” وطموحات الأمة العربية ويستند الى تاريخها. لكنه حزب إنقلابي، أي أن وسيلته في استلام السلطة قائمة على تنظيم مجاميع حزبية قليلة منضبطة وملتزمة بتنفيذ انقلاب تتم السيطرة فيه على مراكز القوة والإذاعة والتلفزيون وتصفية الخصوم.
على الصعيد الإيراني فقد كانت معركة البعث مع ايران “مصيرية” وقد تكون مثّلت مستوىً مشابهاً للعداء الايديولوجي البعثي المعلن للحركة الصهيونية وإسرائيل، وهو العداء الذي تسيّد خطاب البعث منذ تأسيسه حتى لحظة اسقاطه. اتخذت الخصومة مع ايران منحىً قومياً عنصرياً في زمن الشاه، ثم منحىً ايديولوجياً بمسحة طائفية مغلّفة بثورية زائفة، وأوصاف كان يظنها مسيئة مثل تسمية “شرطي الخليج” وغيرها.
قامت الحكومة العراقية أثناء ذلك، في أوائل السبعينات ولاحقاً في الثمانينات، بتهجير عشرات آلاف العراقيين من الأكراد الفيلية، بتهمة إصولهم الإيرانية برغم ان الكثير منهم كانوا في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية. كان أبشع ما في تلك الجريمة العنصرية هو الطريقة التي نفذت بها من اعتقال العوائل ومصادرة أملاكهم وأموالهم ورميهم على الحدود مع ايران وسط الألغام بعد فصل الشباب وسجنهم ومن ثم قتلهم في السجون.
إستمرت الخصومة والمنافسة على النفوذ والسيطرة في المنطقة بعد الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه في شباط 1979، وما ارتبط بها من تعقيدات الوجود السابق للسيد الخميني في العراق لمدة طويلة، وإقصائه عن العراق بالطريقة التي جرت بها وعودته منتصراً الى ايران.
لعبت في تلك الخصومة محاكاة التاريخ الشائك في المنطقة، ومحاولات إسقاط أحداثه على الوضع المعاصر دوراً تعبوياً في تجنيد الموارد المادية والبشرية لدى الطرفين. وخلقت منابع لا تنضب للكراهية والأحقاد أسهمت في إطالة أمَد الازمات والتوتر وعدم الاستقرار. وأُستعيد التاريخ بمسمياته وأحداثه، وخاصة الدينية منها، بأبشع الصور من قبل الطرفين المتحاربين ليخدم أهدافاً دعائية وتعبوية محددة، وجرى تزوير فاضح لبعض مفاصل التاريخ وشخوصه.
كان إشغال الناس بالأزمات والحروب يوفر متنفساً لتخفيف الضغط الشعبي المسلط على نظام القمع، ويسهم في إطالة أمد بقائه في الحكم برغم الخسائر والتضحيات والدمار. فإضافة الى الضحايا والخسائر والحرائق، خلقتْ المواجهات العسكرية والحروب بين البلدين ندوباً وأحقاداً وتعقيداتٍ إضافية لما كان قائماً، وصار حينها سبباً في اشعال الحروب والمواجهات نفسها عبر الأزمنة. ولا شك فإن أجيالاً لاحقة من العراقيين وغيرهم سيواجهون مصاعب أكبر وانعداماً لفرص الإستقرار والسلام، نتيجة لسياسات القمع والإستئثار والإلحاق والتمييز والعصبيات الأثنية والطائفية، والإجتهادات والإختلافات الإيديولوجية، والإستعادات المبتسرة للتاريخ وأحداثه المجتزأة عن سياقاتها وشروطها الزمنية. وما زلنا اليوم نخوض في بعضٍ من مخرجات تلك الحروب والأحداث والأحقاد التاريخية والتنافس على النفوذ والسيطرة.
كان الصراع مع ايران الشاه محمد رضا بهلوي ساخناً وطويلاً، الى أن انتهى بإنصياع حكام البعث لإرادته وإملاءاته التي تمخضتْ عن التنازل عن السيادة العراقية على شط العرب مقابل رفع يد الشاه عن الدعم العسكري للحركة الكردية المسلحة. أي أن البعث قام بترتيب الصفقة مع جهة خارجية (إيران) لتصفية قضية سياسية داخلية (الحركة الكردية)، وقد تم ذلك على حساب السيادة والأرض، اللتين ثبُتَ أن محتلي العراق وحكامه السابقين منذ القرن التاسع عشر حتى عام 1975 كانوا أحرص من حكّام البعث القوميين عليهما.
وقّع تلك الصفقة المجحفة والمضرّة وجعل منها إتفاقية ملزمة، كما هو معروف، نائب الرئيس العراقي حينها صدام حسين، الذي “أنضجته” تجربة الحكم الإستبدادية لاحقاً فتمخض عن طاغيةٍ قلّما شهدت المنطقة مثيلاً له في القسوة والهمجية، فقاد العراق والمنطقة الى الحروب والخراب. وهو بعد أن مَهَر الإتفاقية بتوقيعه الشخصي في 6/3/1975 أمام الرئيس الجزائري هواري بومدين، وسوّق ذلك باعتباره نصراً للعراق، وقف أمام الشعب بعد خمسة أعوام من ذلك التاريخ وبالضبط في 17/9/1980 ليتنصّل منها ويعلن الحرب المدمرة مع إيران، التي كانت قد أطاحت بالشاهنشاهية وأصبحت إثرها إيران جمهورية اسلامية، بشعارات ومواقف مختلفة جذرياً، بما فيها إزاء القضية الفلسطينية.
كان الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر، كما يُعتقد، رافضاً لخيار الحرب مع إيران. يعود ذلك باعتقادي الى خلفيته العسكرية وتقديره الى كلفة الحرب وحجم الدمار البشري والمادي الذي تسببه. وعموماً فالحرب في العرف العسكري، وبرغم الإعداد والإستعداد، ليست أولى الخيارات. أما صدام حسين الذي أزاح البكر من منصبه في تموز 1979 ونصّب نفسه حاكماً مطلقاً للعراق في محله، فلم يخدمْ في العسكرية يوماً واحداً. وأن الرتبة التي مُنحتْ له نتيجة تصاعد نفوذه في الحكم مزيفة ومخالفة للأعراف.
ولذلك فإن إعلان صدام حسين للحرب ضد إيران بالطريقة الإستعراضية التي جرت بها تعكس عقليته المغامرة وسوء تقديره لعواقبها واستهانته بضحايا ودمار الحرب، فضلاً عن التقليل غير المبرر من قوة الخصم. وكما رأينا لاحقاً فقد تكررت حساباته الخاطئة تلك في تحديه للمجتمع الدولي ورفضه الإنسحاب من الكويت، وتعريضه البلاد الى الدمار، وبالأخص قدرات الجيش العراقي. وقد استمرت حالة الإنكار المرضية لديه وهو يرى بأُم عينيه الإستعدادات الأمريكية الكبرى للحرب عام 2003 للإطاحة به واحتلال العراق، فيما ظلّ معتقداً بأنه رئيس العراق حتى بعد اعتقاله المهين وتقديمه للمحاكمة في بغداد.
استمرت الحرب مع ايران ثمانية أعوام قاسية، ودخلتْ التاريخ كأطول حرب في القرن العشرين. وبعد ان عانى البلَدان والشعبان تدميراً وحشياً بمختلف انواع الاسلحة وآلات التدمير، اتفق الزعيمان اللدودان بعد ذلك على وقفٍ للنار تجرّعه السيد الخميني كالسم، كما جاء على لسانه، وإحتفل به صدام حسين على جثث الضحايا وأحزان الأيتام والأرامل، وخراب المدن وهدر الثروات البشرية والمادية.
لم يسترجعْ صدام حسين إثر مغامرته الحربية المدمّرة تلك سنتيمتراً واحداً مما كان قد أعلنه هدفاً للحرب. ثم عاد ووافق مرغماً، برغم إدعائه عكس ذلك، على إعادة العمل بالأتفاقية التي تسببت بتلك الحرب بعد الغائها من طرفه، متناسياً تصريحاته ومطالبه السابقة حول ما أسماه “حقوقاً مكتسبة”، تخيّلها واجبةً إثر توغل القوات العسكرية العراقية في الأراضي الإيرانية في بداية الحرب وبقائها هناك لمدة طويلة نسبياً.
كانت “الحقوق المكتسبة” مصطلحاً يناسب عقلية الغاب والتوحش، ويناغم مخيلة شخص يعتقد ان العالم يسير وفق نزواته ورغباته، وويؤمن بأن طغيان القوة هو الفاعل الوحيد لحل مشكلات العالم كما فعل في التصفيات الداخلية للخصوم لينفرد بعدها بحكم العراق.
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟