بقلم:علي الراضي الخفاجي
كلُّ شيء كان ساخناً في تلك الليلة رغم برودتها، فكما هو معروف أنَّ شهر كانون الأول ويتبعه الثاني يتميز بالبرودة الشديدة في العراق، ولكنَّ التوتر والقلق كان الغالب على مشاعر الناس وحديثهم وتنبؤاتهم بما ستؤول إليه الأحداث.
ذلك عقب ضرب العدوان الأمريكي الغاشم مواقع للحشد الشعبي على حدود العراق وسورية، فكانت مخاوف الناس تتجه نحو توقع تكرار الضربات، أو من ردود الفعل ونتائجها من قبل إيران، ومن فصائل الحشد الشعبي في العراق.
أيامها كنا في بغداد نشارك في المسابقة القرآنية التي يقيمها الوقف الشيعي، فما أن انقضت الجلسة الأخيرة في الحرم الكاظمي المطهر-وكانت ليلة الجمعة- توجهت فوراً إلى محل سكني، ولم يكن من عادتي أن أنسلخ عن فريق المُحكِّمين بعد كل استراحة، وأترك الإستئناس بحديثهم، فقرأت ما تيسر من القرآن لأخلد إلى النوم مطمئناً، مبتعداً عن سماع الأخبار، ولكنني أصبحت على فجرٍ دامٍ، يُنبئُ بِسَنةٍ حَمِئَةٍ حُبلى بالأحداث والمفاجآت لعامٍ تناسبت فيه الأرقام ليكون 2020، ولكن اضطربت فيه الاحتمالات لتكون النتائج خارج القياس.
كان خبراً كالصاعقة التي تصمُّ الآذان، وتصكُّ الأسنان، وتخلع القلوب عن الأبدان، فلطالما كنتُ أتابع بفخرٍ مسيرة الشهيدين المهندس وسليماني في سنوات المواجهة مع داعش، وأعدَّهما من الأبدال، ولكنْ حدثتني نفسي في تلك اللحظات أنَّ كلَّ الأشياء في الحياة تتجه إلى نهاياتها دون تعويض، وأنَّ فقد الشخصيات الفريدة لن يكون له بديل، وأعترف أنَّ شعوري في أثنائها لم يخلُ من المبالغة والإحباط.
قراءة بسيطة لروح الشهيدين تُنبئُك أنهما باعا دنياهما منذ زمن بعيد، وهما في انتظار الفتح الذي يعرج بروحيهما بعيداً عن زخارف الدنيا وزينتها، فعندما تنظر إلى صورتيهما وهما يبتسمان تشعر أنَّ ابتسامتهما لم تكن ساذجة، بل كانت تتجلى فيها إشراقة الروح وطهارة السريرة، وتحكي عن عبقرية شهيد عرف فلسفة الحياة، وخطورة الدور، ومن يفهم أنَّ الدنيا دار ممر إلى دار مقر لا يتمنى أن يموت كالآخرين، ولا أن يُحشر في الجنان إلا مع الشهداء والصدِّيقين.
فالشهيدان مقتولان لامحالة، في حلِّهما وترحالهما، براً أو جواً أو بحراً، ماداما رافضين لبيعة الظالمين، ومادامت الحرب معلنة، والعدو يتربص بدار الإسلام الدوائر خوفاً، ومن يخاف يبتدئ بالعدوان، وتظهر نواياه على فلتات اللسان، ويوصف بالجبان، يقول الإمام علي عليه السلام:(الجُبنُ ذلٌ ظاهرٌ)ويُعبِّر بقول آخر عن ضعف الثقة في قلب العدو:(شدةُ الجُبنِ من عَجزِ النَّفسِ وضعفِ اليقين).
ومثل الشهيدين لا يصدر عنهما أن يقولا: إنَّ للإسلام ربًّا يحميه، وإنَّ للمبادئ ملائكةً تذودُ عنها -مع إيمانهما برعاية السماء- فهما على منهج مدرسة كربلاء الرافضة لكلِّ أنواع المداهنة والمساومة والتطبيع مع أعداء التحرر من المستعبدين والمنافقين.
إنَّ منشأ أيَّ مقاومة لشعب لابد أن تكون ردة فعل لهجوم عسكري واقع أو محتمل، حتى لو كان على سبيل الفكر والثقافة، والكلُّ يعلم أنَّ وجود الجيوش الغربية وعلى رأسها أميركا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بدأ بسيناريو احتلال الكويت من قبل صدام ليكون مبرراً دائماً على وجودها في المنطقة.
فكان من الطبيعي أن تكون هناك جبهة وتحالفات واستعدادات يشترك فيها المؤمنون بأنَّ لله الكلمة العليا، وأنَّ للإنسان القيمة العليا، وهم يشعرون أنهم في مرمى العدو في كل لحظة، لذا كان الثنائي سليماني والمهندس مشروع استشهاد، وناقوس خطر يُنذرُ الدوائر الغربية أنَّ هناك ضمائر حيَّة لم تمت تحت جرعات التخدير المُصنَّعة في دهاليز الظلام لسلب إرادة الشعوب لتكون منقادة إلى توجهاتها، وأعيناً باصرةٌ لما يلوح في الطريق من غزو غاشم لا يفقه غير تنفيذ المؤامرات لنهب خيراتها.
إنها وقفة بوجه أخبث مؤامرة دولية لزعزعة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط؛ كي تكون اللقيطة إسرائيل في مأمن، ولتمرير مشاريع الغرب في استعباد شعوب المنطقة ونهب ثرواتها بأدوات بشرية ممسوخة -من المنافقين وأعراب الخليج- باعت حظها بالأرذل الأدنى وشَرَتْ آخرتها بالثمن الأوكس، وبوساطة جند من خفافيش الظلام(داعش)الذين سِيقوا كالحمير والرعاع إلى الموت الرخيص، مغسولة أدمغتهم، مسلوبة أرادتهم، قرأوا الإسلام قراءة سطحية، وعبدوا الله على حرف((وهم يَحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صُنعاً))وبذل مَن وراءهم من الأنظمة والحكومات كلًّ مالديهم ليذهب هباءً منثوراً((إنَّ الذين كفروا يُنفقونَ أموالهم ليصدُّوا عن سبيلِ اللهِ فسيُنفقونها ثمَّ تكونُ عليهم حَسرةً ثُمَّ يُغلبونَ..))الأنفال/36.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- النشر الصحفي لقضايا الرأي العام
- جرائم الإضرار بالطرق العامة