حجم النص
عباس الصباغ
عاشوراء تكاد تنفرد عن مثيلاتها من الثورات المفصلية، التي غيّرت مجرى التاريخ الانساني بعدة سمات لاتتكرر في غيرها، فعاشوراء هي الثورة الوحيدة في التاريخ التي لم (تأكل) اولادها ان صحّ التعبير، فاغلب الثورات لم تسرْ وفق المنهج المرسوم لها فانحرفت مساراتها او شطّت عن الطريق الصحيح واخذت تناوئ بعض رموزها وجماهيرها كما حدث في الثورة الفرنسية الكبرى التي اطاحت برؤوس قادتها، الاّ ثورة الحسين (ع) فإنها بدأت ثورة متماسكة وناضجة وذات هدف واضح وايديولوجية ثورية معروفة للجميع فحظي ابطالها بامتياز الثوار وتقدير الشهادة والاكرام، معظم الثورات اصابتها الفوضى الخلاقة، فخسرت الكثير من الاتباع والجماهير الاّ ان هذه الثورة قد ازداد عديد رموزها وابطالها بانضمام رموز من المعسكر المعادي اليها كالحر الرياحي الذي كان من كبار قادة ذلك المعسكر، بعد سلسلة من الخُطب التوجيهية والتوعوية التي وجّهها الامام الشهيد (ع).
لم تتجاوز الثورة الحسينية هدفها الستراتيجي المرسوم لها بقيادة الامام الشهيد (ع) وهو الاصلاح، فكان هدفا مركزيا للنهوض بالأمة (انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي ) والذي اعلنه في بداية خروجه من المدينة المنورة، الى أن اناخ برحله على صعيد كربلاء حيث استشهاده المفجع ولم يكشف الامام الشهيد (ع) عن اي هدف اخر غير الاصلاح، كما تميزت ثورة الحسين بسلميتها، فالإمام الشهيد لم يفرض نفسه وايديولوجية على الجميع مهما كانوا وحتى مشروعه الاصلاحي واضح الاهداف لم يفرضه على احد، بدليل انه (ع) قد خيّر من التحق بأن يتركوه بدءا من المدينة وانتهاء بكربلاء ومرورا بالمحطات الـ(18) التي مر بها وخيّرهم بين البقاء معه او التخلي عنه وتكرر الامر عشية يوم عاشوراء، حين طلب منهم الذهاب في سبيلهم، رغم انه كان بحاجة شديدة وماسة للمقاتلين الذين كانوا بالعشرات مقابل الوف مؤلفة من الجيش النظامي بكامل عدده وعدته وكان الجميع يعلم بمن فيهم الامام الشهيد ان المعركة التي سيخوضونها خاسرة بالنسبة لهم كما لم تكن رابحة بالنسبة للمعسكر المناوئ لان الحقيقة (حقيقة الاصلاح) التي رفعها وطالب بها الامام الشهيد، لم تكن متوقفة على العدد والكثرة بقدر ماكانت متوقفة على المبادئ والقيم والرجال الذين يحملونها ويضحّون بأنفسهم من اجلها، فالإمام سيد الشهداء (ع) لم يستعمل في ثورته اسلوبا عنيفا ودمويا للتصعيد في ثورته سوى القاء الحجة والبرهان المنطقي، رغم انه (ع) كان يدرك ان القاء الحجج والبراهين امام معسكر لايتورع عن استخدام لغة السيف والترهيب وتجاوز اخلاق الحروب والعرف الاجتماعي والعسكري هو مضيعة للوقت معهم، فكانت معركة الطف هي اجلى مثل على انتهاك جميع الاعراف القتالية والاجتماعية وحتى الاعراف التي اعتاد عليها العرب في الجاهلية التي قضى عليها الرسول (ص) لم يراعوا فيها ابسط القواعد فيها، فلأول مرة اصبح قتل الاطفال وحرق الاخبية التي تأوي النساء، فضلا عن قتل النساء من صميم المعارك فصارت عرفا عسكريا بعد معركة الطف المروعة، فالإمام الشهيد لم يلجأ الى السيف بعد انتهاء مرحلة الهدنة ومحاولة نصح المعسكر المقابل من مغبّة خوض المعركة ضده كونه حفيد الرسول (ع) وقبيل احتدام المعركة الضروس وغير المتكافئة اصلا، فالتجأ الى القوة دفاعا عن النفس والعرض ولم يبدأهم بالقتال، فكان هذا الدفاع (وليس الهجوم ) قمة في التصعيد الذي التجأ اليه فهو لم يأت الى كربلاء مُرفقا معه ثلة من اصحابه الافياء واهل بيته وأسرته من اجل الحرب، بل من اجل الاصلاح، الذي اعلن عنه كمشروع سلمي منذ خروجه من المدينة وكدليل على هذا المسعى السلمي انه عليه السلام وفي حالة نادرة في تاريخ الحروب والثورات، ربما لن تتكرر اطلاقا قيام قائد المعسكر المناوئ بسقاية جنود القوة العسكرية المعادية وهي ذات القوة التي كانت سببا في احتجازه في كربلاء ومنعه من الرجوع الى مأمنه من الارض، بل وكانت سببا في حدوث المأساة التي حدثت يوم عاشوراء فكان هذا اليوم خرقا واضحا لكل الاعراف التي اعتادت عليها العرب وصار خرقا اسلاميا واضحا وكان هذا الخرق هو الثمن الذي دفعه الامام الشهيد(ع) في سبيل الحقيقة حقيقة الاصلاح الحسيني