بقلم : عبود مزهر الكرخي
3ـ الحُسن الذاتي للبكاء
يزعمون البعض من الكتاب وهم يستندون على ما يقولونه على علماء النفس مبتعدين بعض الشيء عن النظرة الدينية بعض الشيء، إن هناك آثار إيجابية ونفسية للبكاء ويشكل عامل في تنقية روح الإنسان، ولهذا كان الحس الذاتي للبكاء هو كان له دور مهم في تأكيد الأئمة(عليهم السلام) على أقامه مراسم العزاء والـبكاء في نفس الوقت، ولأن التأثر وإظهار ذلك الانفعال عن طريق البكاء هو من ملامح طبيعة الإنسان، وتوازنه العاطفي. فالأشخاص الذين يبكون قليلاً ولا يستطيعون التنفيس عن عُقدهم الباطنية وتبديد همومهم وأحزانهم عن هذا الطريق لا يتمتعون عادة بسلامة نفسية وبدنية متوازنة.
ومن هنا؛ يعتقد علماء النفس: ((أنّ النساء أقل عُقداً من الرجال بسبب سرعة تنفيسهن عن الضغوط النفسية بواسطة البكاء، وهذه إحدى أسرار سلامتهن)) (1).ولهذا فهم يعتقدون أن البكاء يمثل التخلص من العقد المتراكمة في باطن الإنسان، وهو علاج للعديد الآلام والعقد النفسية والمعاناة الداخلية، فدمع العين بمثابة صمّام الأمان الذي يؤدّي إلى الاتزان الروحي للإنسان في الظروف الطارئة.
ويعتقد هؤلاء أنّ الحُسن الذاتي للبكاء هو السبب في بكاء يعقوب عليه السلام لسنوات على فراق ولده، كما بكى رسول الله صلى الله عليه وآله بشدّة على فقد ولده إبراهيم (2) والصحابي الجليل عثمان بن مظعون (3)، كما بكى حين قُتِل جمع من أصحابه، وكذلك في شهادة عمه الحمزة وحثّ نساء المدينة على البكاء على حمزة (4)، وهذا ما جعل الزهراء عليها السلام تبكي رسول الله صلى الله عليه وآله ليلاً ونهاراً (5)، والإمام زين العابدين عليه السلام بكى سنوات على أبيه الحسين عليه السلام (6).
وفي هذا الصدد لا يمكن أنكار الأثار الإيجابية للبكاء ودوره تنقية روح الإنسان وتكامله ممّا لا يمكن إنكاره، لكن هذا التحليل لا يمكن أن يكون هو السر في تأكيد ائمتنا المعصومين(عليهم السلام)على البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام)
وذلك الثواب العظيم. ويُدرك كلّ مَن تأمّل الروايات أنّ هناك هدفاً آخر وراء حثّ أهل البيت على البكاء.، ولكن ليس هو السر في تأكيد الأئمة على البكاء وفلسفته.
تحليل فلسفة البكاء
بعد أن تعرفنا التحاليل الخاصة بالبكاء وأهم المحاور التي فيها، والذي لا يصل إلى مستوى الواردة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، سوف نتطرق الى التحليلات والتي فيها الكثير من الصحة والمنطقية في فلسفة العزاء الحسيني ومن أربعة محاور.
1ـ الثناء على جهاد الإمام عليه السلام وتعظيم الشعائر
أن كل عزاء على أي شخص هو أحد أنواع التعظيم والتكريم لهذا الشخص، وهو ينطلق من موقعه وشخصيته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: ((ميّتٌ لا بواكي عليه لا إعزاز له)) (7)، ولا سيمّا العزاء على أولياء الله الذي يُعدّ من المصاديق البارزة لتعظيم شعائر الله والثناء على عقيدتهم وتكريم نهجهم وجهادهم.
ومن هنا، حين رجع رسول الله صلى الله عليه وآله من معركة أُحد ورأى قبيلتي بني الأشهل وبني الظفر تبكيان شهداءهما ولا بواكي لعمه حمزة، قال: ((لكنَّ حمزة لا بواكي له اليوم)) (8). فلما سمعت نسوة المدينة اجتمعن في دار حمزة وأخذن يندبنه ويُقمن العزاء عليه. وحين أُبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله بشهادة جعفر الطيار في مؤتة ذهب إلى بيت جعفر، ثم الزهراء عليها السلام، فرآها باكية، فقال: ((على مِثل جعفر فلتبك البواكي)) (9).
ولهذا عبر القرآن الكريم في محكم كتابه عن تلك الطائفة من قوم موسى الذين سلكوا سبيل الغي والضلال: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ (10). ويفهم من هذه العبارة أنّ عدم استحقاق بكاء الآخرين نوع من التحقير والتوهين. وعلى هذا الأساس نفهم وصية الأئمة حين قالوا: ((خالطوا الناس مخالطةً إن متّم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنّوا إليكم)) (11).
ولهذا فإن إقامة مراسم العزاء والبكاء على الإمام الحسين(عليه السلام)تلك الشخصية التي كان لها دور مميز في بناء الحضارة الإنسانية وبناء المؤمن الحقيقي بل وحتى الإنسان المؤمن بقيم العدالة والحق ورفض الظلم والباطل، تلك الشخصية الفذة والفريدة من أهل بيت النبوة والعصمة والطهارة، هو من اهم المصاديق البارزة لتعظيم شعائر الله، مضافاً إلى تخليد المقام الرفيع لذلك الإمام الهمام: ﴿ ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (12).
وكيف لا يكون كذلك والصفا والمروة من شعائر الله؟! مع أنّها ليست أكثر من مكان، لكنها عامرة بطاعة الله: ﴿ نَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ﴾ (13). فالإمام الحسين(عليه السلام)قد تعامل مع الله بكل كيانه واستسلم لقضاء الله وحكمه، ليقبل على الشهادة هو أهل بيته وأصحابه المنتجبين ولتكون هذه القرابين في سبيل الله خالصة لله سبحانه وتعالى، وإقامة مجالس العزاء والبكاء عليه إنّما تُعتبر تعظيماً لإحدى أعظم شعائر الله.
2ـ حفظ مدرسة أهل البيت عليهم السلام
من المعروف إن المجالس العزاء الحسينية هي مجالس تدعو إلى رفض الظلم والطغيان وعدم مداهنة الباطل وهي تمثل نهضة حسينية وإنسانية بكل معنى الكلمة، وهي من أهم القوى التي تعمل على أيقاظ الحس الثوري للناس، وكانت هذه المجالس هي تعبر عن النهج الذي حدده الإمام الحسين(عليه السلام) لضمان بقاء الإسلام وديمومته.
" إنّ أهمّية إقامة هذه المجالس وسرّ تأكيد الأئمّة الأطهار عليهم السلام على حفظها تبدو أوضح حين نلاحظ وضع الشيعة في عصر صدور هذه الروايات؛ إذ كانوا يعيشون عزلة خانقة وضغوطاً شديدة تمارسها ضدهم الحكومات الأُموية والعباسية، ويتعذّر عليهم ممارسة أدنى نشاط سياسي واجتماعي ممّا أدّى إلى ضعفهم الشديد، لكن مجالس العزاء الحسينية أنقذتهم وخلقت لديهم حالة من الانسجام والوئام، وجعلتهم قوة ذات شوكة في المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس عبّرت بعض الروايات عن إقامة هذه المجالس بإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام. قال الإمام الصادق عليه السلام في هذه المجالس: ((إنّ تلك المجالس أُحبها فأحيوا أمرنا)) " (14).
وقال السيّد الخميني بشأن هذه المجالس في عبارة جامعة: ((وينبغي أن نُدرك جميعاً أنّ ما يوجب الوحدة بين المسلمين هذه المراسم السياسيّة، ومراسم العزاء على الأئمّة الأطهار عليهم السلام هي التي حفظت هوية المسلمين ولا سيما الشيعة الأمامية)) (15).
ولهذا كانت تلك المجالس هي من حفظت وخلدت النهضة الحسينية وما جرى في عرصات كربلاء، وبالتالي هي من حفظت الرسالة المحمدية وبقاءها ولحد وقتنا وإلى ظهور قائم آل محمد(عجل الله فرجه الشريف)، ولهذا كانت العبارة المشهورة التي تقول(الإسلام محمّدي الوجود علوي الصمود، حَسنيَّ - حُسينيُ البقاء).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ وگومولتز، ويكتور، صد وبنجاه سال بمانيد بالفارسية ترجمة علي محمد: ص134.
2 ـ البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، كتاب الجنائز: ح1277. الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج3، ص262.
3 ـ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص495. المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج79، ص91. أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج6، ص43.
4 ـ الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج2، ص70. الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الطبري: ج2، ص210.
5 ـ المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج43، ص155 ـ 175.
6 ـ المصدر السابق: ج44، ص284.
7 ـ الكاشي، عبد الوهاب، مأساة الحسين عليه السلام: ص118
8 ـ ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب: ج1، ص275.
9 ـ المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج22، ص276.
10 الدخان: آية29.
11 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة10.
12 ـ الحج: آية 32.
13 ـ البقرة: آية 158.
14 ـ الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة: ج10، ص391 ـ 393، ح2. وكذلك منقولة من مقال بعنوان الكاتب: د.الشيخ مهدي رستم نجاد. مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثامن. مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية.
15 ـ الخميني، روح الله، وصية الإمام الخميني الإلهية السياسيّة، صحيفة النور: ج21، ص173.