عباس الصباغ
لايمكن تفسير الاعتداءات الغاشمة التي طالت الكوادر الصحية والتمريضية التي يكون الوطن في امسّ الاحتياج اليها، بأنها سوء تصرف من قبل البعض الجاهل تجاه موظفين يقومون بتأدية واجبهم الانساني تجاه مواطنيهم بل تفسّر على انها خرق كبير ومعيب لابسط مقاربات العقد الاجتماعي التي من اهم اولوياته القاضية بتنظيم الحدود الدنيا من العلاقات وتقنينها ضمن الاطر الانسانية وعدم انجراف عناصر العقد الاجتماعي نحو تطبيق آلياته وفق اهوائهم ومزاجاتهم ضاربين عرض الحائط المصلحة الوطنية العليا و ابسط حقوق المواطنة الصالحة ، وكلاهما تستدعيان ان لايتجاوز المواطن السوي هامش التعامل الصحيح مع مواطنيه الاخرين شركائه في هامش المواطنة ، وما حدث في تلك الاعتداءات على الملاكات الطبية المجاهدة ضمن صفوف الجيش الابيض هو صورة جلية من صور تجاوز ذلك الهامش وعبور الحد المقبول من التعبير الصحيح عن المواطنة الحقة التي تعني في ابسط صورها الاحترام المتبادل والتعامل الانساني مع جميع الشركاء في الوطن لاسيما من يساهم مشكورا في دفع الضرر الكوروني عن العراق واهله الطيبين .
تذكّرني الاعتداءات المؤسفة التي وقعت في الآونة الاخيرة ضد ملاكات الرحمة من الجيش الابيض المكلف بالصد لجائحة كورونا ، بمعاناة صديقي ومجايلي الدكتور الذي اصيب مرتين في ذات الوقت، مرة في كرامته كدكتور عراقي معالج واخرى اصيب هذه المرة في حياته التي خسرها كدكتور معالج ايضا ودفع كرامته وحياته ثمنا للمرابطة في صفوف الجيش الابيض ضد هذه الجائحة وعمل بكل اخلاص وتفانٍ من اجل انقاذ حياة المصابين بهذا الفايروس فقد عدّه ضمن واجبه تكليفا شرعيا وانسانيا مساويا بأبطال الحشد الشعبي ورجال القوى الامنية الذين دافعوا عن العرض والمقدسات ضد الهجمة الداعشية الصفراء ومنفّذا الفتوى التي اطلقتها المرجعية بشان ابطال الجيش الابيض (ابطال الصد الاول) في كونهم اشبه بالمقاتلين في سوح الجهاد بل لايقلّون عنهم شانا ومن يتوفّاه الله في هذا المجال فهو شهيد كالمتضمّخ بدمه .
وسابقا وفي عهد مضى كان امام صديقي الدكتور اكثر من فرصة "ذهبية" كدكتور ناجح يشق طريقه (على باب الله ) خارج العراق واثناء دراسته الاكاديمية في تلك البلاد فقد تم عرض اكثر من فرصة لمستقبل زاهر ولكن يكون ذلك بعيدا عن ارض الوطن وفي بلاد الله التي لاتبخل عليه في تقديم جميع الامكانات والنجاح والرفاهية لامثاله من العقول المهاجرة من بلاد لاتعرف قيمته كطبيب لكنه رفضها جميعها مفضّلا البقاء في بلده (العراق) وخدمة اهله وناسه والمحتاجين الى خدماته كطبيب غاضّا الطرف عن جحود البعض ونكران خدماته الانسانية ومتحمّلا محاربة النظام البائد للكفاءات والعقول وكان لسان حاله يقول :
( بلادي وان جارت عليّ عزيزة وقومي وان شحّوا علي كرام )
وكانت البلاد ترزح آنذاك تحت نير ديكتاتورية شمولية متعجرفة لاتفرّق في طريقة تعاملها الهمجي واللاانساني بين دكتور ناجح وفي اهم الاختصاصات وبين ابسط انسان في المجتمع فالكل متهمون في نظر ذلك النظام ضمن دائرة الشبهة التي قد تعرّض ضحاياها الى اقسى ردود الافعال القمعية والهمجية فالكثير من العراقيين وقعوا تحت طائلة هذا المصير ، ومع هذا فقد شقّ هذا الدكتور طريقه وسط حقل مليء بالألغام الفاشستية والعنصرية والحرمان من شظف العيش رافضا جميع العروض التي كانت تنهال عليه كدكتور ناجح من كل حدب وصوب .
وكم من مرة وخلال خدمته الشاقة تعرّض فيها لأكثر من اعتداء لفظي وجسدي صاحبته مساءلات تتعلق بالسنن العشائرية المجحفة، واخيرا وبعد مسيرة حافلة بالعطاء والتضحية ونكران الذات وحفاظا على ماتبقى من كرامته وسمعته كطبيب قرر انهاء خدماته بعد ان تعرّض لاكثر من اعتداء صارخ من قبل بعض المتهورين الذين يفرضون سننهم العشائرية بشكل فوضوي وانّى يشاءون ، وقد وصلت الامور الى حد لايطاق اذ تم الاعتداء عليه وخلال واجبه وبدون سبب مقتع وقرار تقديم الاستقالة كان كحل وسط بين الهجرة والنزوح نحو الذلة التي رفضها مسبقا وهو في عز شبابه وبين البقاء لأخذ قسط من الراحة بعد مشوار طويل من العمل المضني فقد اتعبه هذا المشوار ، ولكن وبعد تقديم استقالته من المشفى الذي يعمل فيه طبيبا لبعض المصابين الذين كان يقوم بتطبيبهم وضمن واجبه الانساني في صفوف الجيش الابيض ،وبعد رحلة معاناة شاقة تعرض فيها الى مضايقات النظام السابق التي كادت تودي بحياته وبعد مضايقات لامسؤولة من قبل البعض الجاهل طالما تعرض لها الكثير من اطباء العراق اثناء تقديم واجبهم الانساني ارتفعت على واجهة المشفى الذي كان يخدم فيه لافتة نعي مقتضبة تفيد عن انتقال الدكتور الفلاني الى رحمة الله بعد اصابته بفايروس كورونا وبعد ان ساهم في انقاذ حياة المئات من المصابين والملامسين بهذا المرض وقد توشحت لافتة النعي بشريط اسود دلالة على الحداد على روح طبيب عراقي كفوء دفع الثمن اكثر من مرة وهذه المرة اخلاصه لوطنه العراق فمات شهيدا في صفوف الجيش الابيض .
× قصة حقيقية حدثت لطبيب شهيد كنت شاهد عيان عليها.