- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
"عبودي" يتبرع بخمسين ألفاً ..
بقلم: عادل الموسوي
"عبودي" طفلٌ عراقيٌ من محافظة واسط، ولدٌ "حباب" ونظيفٌ و"حلو"..
حين قرأت قصته القصيرة جداً لا أعرف كيف ولماذا خطر في مخيلتي جمال أفراخ البط، وكيف تسير منتظمة ثم تدخل الماء لتسبح بمهارة..
عالم الحيوان جميل جداً ورائع..
تجذبني أفلامه الوثائقية بشدة، منها هندسة بناء الأعشاش ورعاية الصغار، وتدهشني جداً أفراخ البط، فبمجرد خروجها من البيوض تسير متمايلة تهز أذنابها الصغيرة تمشي واحداً تلو الآخر إلى الماء، فإذا بها تسبح بثقة ومهارة، فأقف حائراً متفكراً..
من علمها ذلك ؟!
وكيف تسبح دون تمرين او تجربةٍ سابقة ؟!
نقلني مشهد "عبودي الحلو" والنظيف إلى مشهد آخر من عالم الإنسان..
في كربلاء المقدسة في أربعينية الإمام الحسين عليه السلام، إذ أقيم في أحد المواكب مجلساً حسينياً، وعلى اليمين مني إلى الخلف قليلاً يجلس ثلاثة أولادٍ صغار أعمارهم ما بين الرابعة والخامسة، كنت أسترق النظر إليهم حريصاً على أن لايلتفتوا إلى فضولي لئلا ينتابهم الخجل، كنت أريد رصد وقع قراءة الخطيب على مسامعهم، كانت أعينهم تدور دهشة، قلت ما عساهم أن يفهموا وكيف تدور في مخيلتهم أحداث مايسمعون..
نعى الخطيب المصيبة، ضج المجلس بالبكاء والنحيب، إنهار الأولاد من شدة البكاء، منهم مَنْ حنى رأسه إلى الأرض بين ركبتيه وشبك يديه فوق رأسه، ثم رفع وجهه إلى السماء تتجارى دموعه كاميزاب، ليلطم وجهه جزعاً للمصيبة.
يا الله .. ما الخطب، ما الذي فهمه هؤلاء الصبية وما الذي تخيلوه من مشاهد ؟!
كيف أدركوا المصيبة، من علمهم ذلك وكيف؟!
اما المشهد الذي أريد أن أصل إليه فهو من عالم الفتاوى للمرجع الأعلى، وأن تعجب كيف يتلقفها المؤمنون وكأنهم شاركوا تحريرها واستنباط أحكمها فعجبٌ كيف أدركها أولادٌ في الابتدائية من الدراسة.
كان حلم "عبودي" أن يشتري "هاتفاً نقالاً" فهو يرى بأن شخصيته لابد أن تكون مستقلة، ربما أنِفَ أن يُكثر الاستعارة من إخوته الكبار أو والديه، او ربما يكون قد تَعِبَ من إستغلال طلباته بإرساله إلى "الدكان" او فرن "الصمون"..
لا أدري أن كان "عبودي" مغرماً بـ"كارتون ماشا والدب" او إحدى الألعاب، ولعله مغرمٌ بعالمِ الحيوان أيضاً..
فكّر بأن يسلك طريقاً آخر ليكون سيد نفسه، بدأ يجمع "اليومية" وفي العيد "العيدية"، "الربع والخمسمية".. إلى أن مضى على ذلك زمن يُمتَحَنُ فيه الصبر من مثله، عامٌ ونصف من الحرمان مما يشتهيه الأطفال من مشتريات ..
ماذا هناك !! العالم يموج ببعضه والأخبار تترى بزيادة أعداد المصابين بـ "كورونا".. فُرِض الحظر ..
لم تكد مؤونة المتضررين تنفد حتى ملئتها أيديٍ تملؤها البركة، إذ وجه الاب المرجع بكفالة عياله.. وإذا بعماله ولهم دويٌ كدوي النحل يَصِلون الليل بالنهار بلا كلل، ساعين وباذلين وعاملين..
"عبودي" على مرآى ومسمع، يعي ما يدور ولم تزل ملامح وخيالات مثل هذه الحركة من دعم المواكب للمجاهدين في الحرب على الإرهاب غير بعيدة عن ذاكرته..
"عبودي" يعي ما يفعل..
تقدم بخطواتٍ واثقةٍ بيده سكيناً قديماً ومطرقةً.. دون تردد وبضرباتٍ متمكنةٍ كسر "الهاتف النقال" من قائمة أحلامه، فتح العلبة المعدنية.. رتب عملاتها النقدية، "أرباع" كثيرة وبعض "خمسميات" وقليل من "الآلاف"..
بدأ العدَ ومعه القلب يَعِدُ ضربات نفسه مخافة أن لا يكون المبلغ معتبراً..
كانت خمسون ألفاً، تزيد او تنقص قليلاً..
يذكِّرني كون القصة وقعت في "واسط" الخميس الماضي، بما حل بمدينة "الكوت" من حصار بداية القرن الماضي، أبان الإحتلال البريطاني، حتى صار ذلك الحصار مثلاً يُضرب، وتروى قصص من مآسيه ومعاناته، منها قصة المرأة فقدت جميع أولادها، إذ أسفر الصبحُ عنهم موتى في فراشهم إذ باتوا ليالي واياماً طاوين..
هل سمع "عبودي" تلك القصة ؟!!
لعله أراد أن يمنع تكرارها..
وهل لمثل من كان في عمره أن يدرك جميع ذلك..؟!!
هل ورث أبناؤنا المأساة ؟!
ام ذاقوا مرارتها من صدور أمهاتهم عند الفصال..؟!
في "واسط" كانت هناك حملة لجمع التبرعات وتوزيع "السلات الغذائية"، كان أحد العاملين عليها قد رجع إلى داره إستدعاه بعض معارفه للدخول عندهم، فروى لأحد المشايخ عن ذلك قائلاً:
((شيخي أكو موقف صار وياي اذا تحب تكتب عنه..
البارحة بالليل من رجعت للبيت جماعة صاحوني، گلولي تفضل عدنه..
دخلت.. إجه ابنهم الزغير بالابتدائية.. انطاني خمسين الف، طبعاً هذا صار تقريباً سنة ونص يجمع بيهن.. جان اهله كلما يروح للمدرسة ينطونه ربع او خمسمية مصرف لأن عنده ضعف وكون ياكل بالمدرسة.. فهو كان مايگول لاهله ومجمعهن عود يريد يشتري موبايل، فمن سمع بيه اوزع وكذا گام جاب الفلوس اللي عنده كلهن وانطانياهن وگال: ذني قربة الى الله تعالى للحملة مالتكم)).
"عبودي" أتى بالخمسين ألفاً وهي كل ما يملك وهي الأحلام كلها .. قال : "ذني قربة إلى الله للحملة مالتكم".
لا أريد الخوض فيما تطرحه هذه القصة القصيرة الكبيرة من رسائل.. ولكن أقف مندهشاً متعجباً من أسرار ذلك..
من علمه ذلك وكيف؟؟
كيف جزع الأطفال على مصيبة أبي عبد الله ؟؟!
من علم صغار البط السباحة؟!!
أهي الفطرة ؟
الرضاعة واللبن؟؟
أم هو وحي كالوحي إلى النحل؟!
إن تكلمنا بلغة أهل العراق التي يفهمها شيعته تجد:
أنَّ الرجل منهم عند الخطبة يشتري "النيشان" من الصاغة المنتشرين قرب المراقد المقدسة فيزور الخطيبان زيارتهما الأولى معاً.. ثم في اليوم السابع من الزواج، ثم عند ولادة المولود الاول، ثم يكون ذلك المولود في حضن امه في مجالس عزاء النساء يرتضع اللبن ممزوجاً بمصيبة الرضيع عليه السلام، فإذا صار صبياً إصطحبه الوالد إلى المجالس والمواكب.. ثم إلى الأربعين والرجبية..
هؤلاء هم .. وهؤلاء أبنائهم..
فكيف تتصور أن يكونوا ؟!
وكيف يمكن ل"عبودي" أن يكون..
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً