- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ملامح الموازنة العامة الاتحادية للعراق ٢٠٢٠ وصراعات العجز الفعلي
بقلم: د.مظهر محمد صالح
انقضت السنة المالية ٢٠١٩ للعراق وعجز افتراضي قدر بنحو ٢٧ تريليون دينار وكان يشكل ذلك العجز نسبة قدرت بنحو ٢٠٪ من اجمالي الانفاق الكلي البالغ ١٢٧ تريليون دينار.
اذ جرت تغطيته من دون اقتراض او استدانة خارجية على الأقل اذ جاء التمويل الريعي من مصدرين ، اولهما من فائض مدور من موازنة العام ٢٠١٨ وبرصيد لم يقل عن ١٧ تريليون دينار وثانيهما، من ارتفاع متوسط أسعار النفط العراقي المصدر الذي قدر بنحو ٦٤ دولار للبرميل الواحد طوال عام ٢٠١٩ مقارنة بسعر برميل النفط المثبت في موازنة العام ٢٠١٩ و البالغ ٥٦ دولار للبرميل وبقدرة تصديرية كانت بنحو ٣،٨٨ مليون برميل نفط يومياً .
آخذين بالاعتبار ان ارتفاع قائمة الأجور والرواتب التي احتلت نسبة في موازنة ٢٠١٨ مايزيد على ٥٧٪ من اجمالي الإنفاق الحكومي قد ترتفع في موازنة ٢٠٢٠ الى ٦٧٪ من اجمالي الإنفاق الحكومي الراهن بفعل التعيينات التي اضافت قرابة نصف مليون موظف حكومي جديد .
ويلحظ ان خلال هذين المصدرين الماليين الإيجابيين انتهت السنة المالية في العام ٢٠١٩ بحالة من شبه التوازن ومن دون حصول عجز حقيقي ولكنها جاءت خالية من أية تحوطات مالية مضافة بمقدورها ان ترفد عجز موازنة ٢٠٢٠ سوى برصيد افتتاحي ربما يصل بالغالب الى ٣ تريليونات دينار.
وهكذا سيرتفع العجز المقدر او العجز (الافتراضي) في موازنة العام ٢٠٢٠ الى قرابة ٥٠ تريليون دينار وهو يمثل هذه المرة حوالي٣٠٪ من اجمالي الانفاق في الموازنة المذكورة مقارنة بالعجز الافتراضي نفسه في موازنة ٢٠١٩ والذي قدر وقت ذاك بنحو٢٠٪ من اجمالي الإنفاق الحكومي .
وبهذا ستشكل نسبة العجز الى الناتج المحلي الإجمالي في موازنة ٢٠٢٠ نسبة تكون بين ٧٨٪ مقارنة بالنسبة المعيارية الدولية التي لاتزيد على ٣٪.
وعليه هناك ثمة توقع ان يتحول العجز (الافتراضي) البالغ ٥٠ تريليون دينار في موازنة العام ٢٠٢٠ الى عجز (حقيقي) يقتضي تمويله عن طريق الاستدانة لامحال وبمبلغ لايقل عن مقداره عن فائضات السنة المالية ٢٠١٨ والتي بلغت بنحو ١٧ تريليون دينار كحدٍ ادنى كما اشرنا الى ذلك سلفاً.
اذ تقدر مراكز الدراسات والاستطلاع العالمية مثل مؤسسة Fitch global في تقريرها الأخير حول تحليلها للمخاطر المحيطة بالاقتصاد العراقي الى أمرين أساسيان، احدهما يتمثل بانخفاض متوسط سعر برميل النفط العراقي المصدر إلى قرابة ٦٢ دولار طوال السنة المالية ٢٠٢٠ مقارنة بسعره الذي بلغ متوسطه فعليا ٦٤ دولار في موازنة العام ٢٠١٩ (مما سيقلل من الايرادات النفطية المراهن عليها عند تصميم العجز الافتراضي المذكور انفاً) والأمر الآخر، هو اضطرار العراق إلى كسر تعهداته في الالتزام بسقف انتاج محدد وعلى وفق اتفاق الاوبك الاخير ليرتفع إنتاجه اليومي إلى خمسة ملايين برميل نفط خام يومياً وبفارق زيادة نصف مليون برميل مما يساعد على ارتفاع طاقاته التصديرية لتعويض الانخفاض في موارد الموازنة العامة.
وعلى الرغم من ارتفاع نفقات الموازنة حاليا وفق اسس مازالت متفائلة نسبيا قوامها شرط الكفاية في عائدات النفط sufficient condition، فان اعادة النظر بمشروع الموازنة حاليا سيبقى شرط ضرورة necessary condition ولابد منه.
فثمة مخاوف تحيط بمستقبل أسواق الطاقة باتجاه الانخفاض في الطلب العالمي على النفط وتوافر مؤشرات شبه ركود في الاقتصاد العالمي اذا ان سعر برميل النفط العراقي المصدر يباع حالياً بنحو ٤٩ دولار للبرميل وهو اقل من السعر المحدد في موازنة ٢٠٢٠ البالغ ٥٦ دولار للبرميل ايضاً .
في وقت اظهر التقرير الاقتصادي الصادر عن معهد التمويل الدولي في مطلع أذار ٢٠٢٠، أنه من المحتمل أن يشهد الناتج المحلي الإجمالي العالمي نمواً يبلغ 1 بالمائة تقريباً في عام 2020. وان هذه القراءة المحتملة تعد أقل من تقديرات العام الماضي والبالغة 2.6 بالمائة، ومن شأنها أن تكون الأضعف منذ الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٨.
وهو ما يحتم الحذر الشديد نحو اعادة النظر في هيكل الموازنة وعلى نحو جذري ويجنب البلاد اللجوء الى مخاطر التمويل بالعجز لدعم الموازنة التشغيلية budget support من خلال الاستدانة او الاقتراض الخارجي او اللجوء إلى الاقتراض الداخلي الأكثر مرونة .
إذ مازالت المؤشرات المالية لطاقة تحمل الدين تؤكد ان نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي بنحو ٥٥٥٦٪ .
وان ما ندعو اليه هو ليس دعوة للتقشف ولكن ثمة دعوة لاعادة هندسة المالية العامة العراقية وتجنيب الموازنة العامة مشكلات معادلة مايسمى بقيود الموازنة الهشة -
soft budget constraints التي اصبح الانفاق فيها يتم بيسر عبر اتساع السلف الحكومية والسحب على المكشوف والاقتراض بأمل تحصيل ايرادات حكومية محتملة سريعة هي جميعها من العادات الحكومية غير الحسنة، وتساعد لا محالة على تراكم المديونية والتوسع بالعجز في الإيرادات العامة ما يفقد قضية التعزيز المالي fiscal consolidation مظاهرها الاساسية مثل تقيلص فجوة العجز في الإيرادات العامة او تقليل مقدار التراكم في الدين العام. وجميعها تفقد البناء المالي للبلاد مقومات الاستدامة لبلوغ الاهداف الاقتصادية والاجتماعية الكلية المستقرة .
ختاماً، سيتوقف اقرار الموازنة العامة الاتحادية للعراق للعام ٢٠٢٠ على توافر حكومة تمتلك القدرة على تمرير مشاريع قوانين الى مجلس النواب وفق العملية الدستورية ، اذ لاتسمح التطبيقات الرسمية المعتمدة قيام حكومة تصريف الاعمال بتمرير مشاريع قوانين ورفعها الى مجلس النواب لتشريعها ذلك لاقتصار نشاطات مجلس الوزراء في حكومة تسيير اعمال على ممارسة الأمور التنفيذية الروتينية المستقرة بموجب القوانين والنظم والتعليمات النافذة.
وليس من خيار امام السلطة المالية اليوم الا اعتماد المبادئ المنصوص عليها في قانون الادارة المالية الاتحادي بالصرف بنسبة ١٢/١ شهرياً من اجمالي المصروفات الفعلية في موازنة العام ٢٠١٩.
اذا سيغطي الصرف في هذه الحالة النفقات التشغيلية للحكومة وبشكل خاص الرواتب والاجور والمعاشات التقاعدية ومخصصات الرعاية الاجتماعية ومخصصات تسديد خدمة الديون الخارجية والداخلية وسد نفقات المشاريع الاستثمارية المستمرة فحسب.
وإذا ما انتهت السنة المالية لغاية ٣١ كانون اول ٢٠٢٠ من دون اعتماد موازنة عامة اتحادية فان ذلك يعني ان البلاد ستحرم من اية مشاريع استثمارية حكومية جديدة باستثناء تلك التي هي قيد الإنشاء ، ما يعني تعظيم التباطو في النمو الاقتصادي وتوافر طاقات تمويل استثمارية هي اقل لمواجهة نمو قوة العمل المضافة الى سوق العمل في سنة ٢٠٢٠ والتي تقدر باقل من ٤٠٠ الف فرصة عمل مضاف سنوياً، وهو الامر الذي قد يغذي ركوداً نسبياً في النمو الاقتصادي ومعدل بطالة ستزيد على ١٨٪ من اجمالي قوة العمل ويطلق في الوقت نفسه اشارات غير مشجعة للمستثمرين في القطاع الخاص، ذلك لكون الموازنة هي خطة مالية لمدة عام تضم صراحة او ضمناً اهدافاً اقتصادية واجتماعية ومؤشرات مهمة .
وبهذا فان عدم اقرار الموازنة سيعني بمرور الوقت غياب معرفة المستثمرين وبقية صناع السوق في لطبيعة أهداف البلاد الاقتصادية والاجتماعية التي تمكنهم من اتخاذ قرارات إيجابية لدفع نشاط الاعمال بشكل اوسع.
أقرأ ايضاً
- جرائم الإضرار بالطرق العامة
- بماذا للعراق ان يستفيد من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ التجربة البريطانية
- تساؤلات حول مصداقية المحكمة الاتحادية