- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التداعيات السياسية بعد قرار المحكمة الاتحادية
بقلم:د.محمد نعناع
مثلما هي الأوضاع السياسية والتوترات الإقليمية التي سادت مطلع العام 2012 وامتدت إلى منتصف العام 2014 تعود الأن في العراق والمنطقة، مفاوضات مستمرة من أجل جدولة الوجود الأجنبي في العراق وبالتحديد وجود القوات الأمريكية ضمن التحالف الدولي أو بمعزل عنه، وانسحاب تام للتيار الصدري من معادلة السلطة، واستهداف وتهميش للرموز السياسية السُنية، أو بشكل أوضح، تفريقُ للاجماع السُني من أجل إضعاف الموقف العام للسنة، بغية عدم تحقيق مطالبهم ضمن ورقة الإتفاق السياسي التي تأسس على أساسها ائتلاف إدارة الدولة وتشكلت حكومة محمد شياع السوداني، ومن أهم هذه المطالب تشريع قانون العفو العام وإعادة النازحين والمهجرين إلى سكناهم بعد توفير الخدمات لمناطقهم المدمرة، ويرافق هذه الأوضاع في العراق تصعيد دولي وإقليمي جديد، بعض تمظهراته مميتة وخطيرة جداً، كما يجري في غزة، وكما جرى من استهدافات متبادلة بين القوات الأمريكية والفصائل العراقية المسلحة، وإذا كانت الأعوام من 2012 إلى 2014 غذى توترها موجة الربيع العربي، فأن الوضع الحالي تغذيه الحروب المباشرة في أوكرانيا وغزة، وتبرز في كلاهما رغبة إيران في الاستفادة من التصعيد لصالحها، رغم إنها ووكلائها وحلفائها تكبدت خسائر كبيرة، مما دعاها ومن بمعيتها الى خفض التصعيد والكف عن استهداف القواعد والمصالح الأمريكية منذ أكثر من شهر، بعد تهديدات أمريكية مباشرة بالرد في الداخل الإيراني في حال استمرت عمليات القصف بالمسيرات والصواريخ، إن هذا الواقع المترع بالتأزم يتحمل الداخل العراقي إحدى أكبر ضرائبه، وتقف الحكومة العراقية حائرة بين ارتباطها بالقوى السياسية التي شكلتها وهي قوى راديكالية يأتمر جزء كبير منها بأوامر إيرانية، وبين توازنها من أجل تطبيق الإتفاقات السياسية والبرامج الحكومية، وهذه الحيرة تزداد كلما طمحت القوى الراديكالية بتضخيم دورها على حساب الشركاء، وكلما زاد التوتر الإقليمي والدولي، ولكن الضغط الأعلى الذي تواجهه الحكومة في الداخل هو رغبة المشاركين في تشكيلها باضعاف مراكز القوى العراقية الأخرى بشتى الطرق، ومن هذا المنطلق يُفكر القادة الكرد في قرارات المحكمة الاتحادية التي يرونها قرارات مدفوعة بمواقف سياسية، حتى لو كانت قانونية من الناحية الشكلية، لأن المهم بالنسبة لهم هو المصالح العليا للإقليم والمكاسب القومية التي تحققت بعد العام 2003، وهذا ما تهدده تلك القرارات التي يؤيدها من يريد تفكيك الإقليم، واللعب على خلافاته الداخلية التي تقوض تقدمه وتُعين خصومه على تحقيق أهدافهم العدوانية ضده، ومن هذا المنطلق جاءت تصريحات رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، فهو يرى بأن ما يحيط بالعراق وبالاقليم وبالمنطقة عموماً يتجه نحو انتاج عراق آخر غير الذي تُشكله التحالفات والإتفاقات السياسية، وفي هذا المسار تكمن عملية تقويض الشراكة، بل وتقويض الديمقراطية، وتتصاعد هنا لغة التحذير من سيناريو جديد لربما يجتاح العراق بسبب المخرجات السياسية السلبية للقرارات القانونية، فلا يُخفي البارزاني أي تحفظات على طبيعة إدارة الدولة، لا في مجال تلبية معادلة السلطة لحقوق المكونات واحترام الإتفاقات، ولا في مسار استغلال المؤسسات الدستورية والقانونية للضغط على الشركاء المتوافقين او الخصوم، ولا في استخدام مقدرات الدولة العراقية عبر قوى مسلحة في قضايا اقليمية ودولية، ويرى إن هذا التوصيف لوضع العراق –كما قال في مقابلة مونتي كارلو- تم إنتاجه عند الشعور بمنع قوى سياسية داخل الاطار التنسيقي حكومة السوداني من تطبيق الإتفاقات السياسية، وهذا العجز الحكومي سينعكس بالضرورة على الاستقرار السياسي، ولم يخفي البارزاني إتهامه للمحكمة الاتحادية بأنها ضد الاقليم بامتياز، على حد وصفه، ولم يخفي عدم ارتياح الكُرد وقلقهم من جمع المحكمة الإتحادية عدة سلطات في يدها، فقراراتها حسب هذا النسق تعطيها مهمات التشريع والقضاء والتنفيذ، وهذا ما يقوض الفصل بين السلطات، وهو كذلك ينسف الاتفاقات السياسية التي على أساسها تتشكل الحكومات المتعاقبة، أو يجعل هذه الإتفاقات في مصلحة جهة سياسية واحدة، وهنا بالضرورة سيتم التذكير بالحقب التاريجية الديكتاتورية التي تضرر منها الكُرد على طول تأريخهم السياسي والاجتماعي.
إن قرارات المحكمة الاتحادية الأخيرة التي بتت بتوطين رواتب موظفي إقليم كردستان بقدر ما هي عملية قانونية من الناحية الشكلية، إلا أنها بالنسبة للقيادة الكردستانية ذات أبعاد تدميرية على الإقليم في ظل الخلافات السياسية بين القوى الفاعلة في السليمانية واربيل، فتلك القرارات تغذي الخلافات التي تنحو منحى استراتيجي لا يمكن المساومة عليه، فمن يحاول تفكيك الإقليم وتجزئته إلى جزأين أو أكثر لا يمكن التشارك معه أو الموافقة على تقوية نفوذه، ومن هذا المنطلق يتجهز قادة الإقليم لمواجهة تحديات جديدة، فهم يعتقدون بأن صناعة أزمة جديدة مع الكُرد للتغطية على أزمات مقبلة في جسم الدولة العراقية ليس بعيداً في ظل العقلية الإقصائية التي تتحكم بمؤسسات الدولة، لذلك أوفِدَ رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليُجري محادثات عميقة ويقوم باجتماعات متعددة لاستشراف المرحلة المقبلة، ويستطلع هو ووزير البيشمركة إمكانية تحصين الإقليم عسكرياً وأمنياً واستخبارياً بعد إنسحاب القوات الأمريكية والتحالف الدولي.
لقد أفرزت قرارات المحكمة الإتحادية وضعاً سياسياً يستبطن تداعيات سلبية، من وجهة نظر كوردستانية، وهكذا هو تفكير بعض المراقبين أيضاً، ومن هذه التداعيات إشغال حكومة السوداني عن العمل في بيئة سياسية مريحة، وفتح المجال أمام التدخل الخارجي في الشؤون العراقية، وما زيارة مسرور بارزاني إلى واشنطن إلا بابُ للمزيد من التعاملات السياسية الداخلية مع القوى الاقليمية والدولية بدون التنسيق مع الحكومة الإتحادية، وما هو أخطر من كل ذلك هو إمكانية تحريض قوى داخل الإطار التنسيقي لقوى كردية للمطالبة بانفصال السليمانية وحلبجة وتكوين إقليم جديد يكون تحت السيطرة الإيرانية.