- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الحرب على الاستثمار في العراق!
بقلم: مشرق عباس
لا يتحمس المستثمرون للقدوم إلى العراق على رغم أنهم أمام سوق واعدة وكبيرة في قلب الشرق الأوسط. يترددون كثيرا أمام التقارير التي تضع هذه البلاد في صدارة الدول الأكثر فسادا. يقلقهم الأمن الهش، ويمسكون قلوبهم وأموالهم عندما يتم الحديث عن عمليات اختطاف وابتزاز وتهديد وربما قتل لمستثمرين.
ومن الجيد الاعتراف أن العراق لم ينجح فعلا في توفير الغطاء القانوني، ولا البيئة المؤاتية للاستثمار، وأن الاستثمارات الكبيرة الوحيدة نتجت عن الاقتصاد الريعي النفطي، وفي حدود أقل من قطاع الاتصالات، فيما كانت قطاعات أساسية كبرى تمثل جوهر النهوض الاقتصادي مثل البنى التحتية، والسياحة، والزراعة، والصناعة، بعيدة تماما عن الاهتمام الاستثماري، لأنها تحتاج إلى رؤية استثمارية بعيدة المدى، واستقرار وضمانات لم يتم توفيرها للمستثمرين بشكل جيد.
هذه صورة أولية فقط، وهناك مستويات أخرى لتفسير ظاهرة العزوف عن الاستثمار في العراق، من بينها أن الاستثمار هو الطريق المختصر للنهوض الاقتصادي والتخلص من تبعة الدولة الريعية ومآلاتها الكارثية، فيما أن القوى السياسية والمجموعات المسلحة ومراكز النفوذ، التي شيدت وجودها الكبير في جسد الدولة العراقية وأسست لأنظمة بقاء ذي طابع علقي، لا يمكنها الحفاظ على هذا الوجود في ظل أي انتعاش اقتصادي متوقع. وهي تدرك أن تغيير البيئة السياسية الحالية، وتطوير بنية الدولة وتقوية أركانها القانونية، وإنعاش الفرد وتنمية استقلاليته وتوفير خيارات اقتصادية له خارج نظام الوظيفة الحكومية، كلها عوامل تضرب جوهر وجودها وتفرض بالضرورة أنماطا جديدة من التأثير السياسي والفكري.
وباختصار، إن القوى الحالية لا ترغب بالانتحار أمام عتبة الوعي الشعبي بضرورات الانفتاح الاقتصادي وتطوير السوق وتنويع مصادر الدخل وتمكين الخيارات الفردية المستقلة.
أن يمضي العراق إلى كارثته الاقتصادية القادمة لا محالة، وهناك 75 في المئة من سكانه يعتمدون في حياتهم ومعيشتهم على ما توفره لهم الدولة من رواتب ويستهلكون نحو 80 في المئة من الموازنة النفطية الاحادية ضمن اقتصاد يعاني خللا دائما، فتلك حقيقة يدركها كل المسؤولين العراقيين، وتعي آثارها كل القوى المؤثرة في القرار الاستثماري، وتفهمها تماما الفئات الحزبية والمسلحة التي تشن الحرب بلا هوادة على الاستثمار الأجنبي.
حرب تبدأ من دفع هذه الفئات المستمر باتجاه زيادة الكتلة الوظيفية المترهلة في الدولة للحصول على ولاء أصوات انتخابية، مرورا بمحاولة أن تكون الشركات الحزبية لا الدولة شريكا لكل مستثمر قادم إلى العراق مقابل حمايته، وليس انتهاء بربط الاستثمار بدلائل سياسية، وبعجز الوسط السياسي عن اتخاذ قرارات قاسية لكنها ضرورية للمستقبل مثل البدء بأنظمة اللامركزية الادارية، وتمكين القطاع الخاص، وتحسين سمعة العراق في الخريطة الدولية.
في تلك النقطة الأخيرة، يتعاطى المسؤولون العراقيون باستخفاف مع التقارير الدولية المتتابعة عن التصنيف العراقي، والتي يمكن الجزم أنها تفتقر إلى الدقة الإحصائية اليوم وتستند إلى معطيات سنوات سابقة، فلا بغداد أسوأ مدينة للعيش في العالم، ولا العراق أكثر الدول فسادا، ولا الأمن العراقي في أسوأ حالاته، ويمكن القول إن هذا الاستخفاف الرسمي هو جزء من الحرب على الاستثمار، وإلا فإن الدول التي تخطط لمستقبلها بعد أن تضع خطط النهوض، تضع موازنات سنوية لدعوة الباحثين والمراكز المتخصصة ووسائل الإعلام المختلفة لتشجيع كتابة تقارير منصفة ومتوازنة وواقعية تضع المستثمرين عبر العالم أمام حقائق في هذه الدولة أو تلك، وليس مجرد انطباعات.
نعم.. بإمكان العراق تحسين ترتيبه العام في التصنيفات الدولية عبر حركة علاقات عامة نشطة ودؤوبة، وإن التقارير العادلة من شأنها أن تشجع المستثمرين للقدوم، وأن تحرك عجلة الاستثمار وتفتح الباب لمتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية ضرورية. كل هذه الدائرة المغلقة أمام الاستثمار يمكن كسرها فعليا من خلال الحكومة العراقية الحالية، التي عليها واجب إعداد خطة قانونية لتشجيع الاستثمار وتوفير الحماية له.
الخطوة الاولى تبدأ من المصارحة بالحقائق القاسية، ومن هذه الحقائق أن العراق بوضعه الاقتصادي الحالي معرض خلال السنوات المقبلة لنكسات كبيرة تضرب آخر ما تبقى من أمنه ووحدته ووجوده، ولن يكون التهديد بالضرورة إرهابيا على غرار “داعش” أو أي تطور لاحق له، بل إن الخطر الأكبر يتمثل بالموازنة النفطية التي قد تجد نفسها خلال سنوات أمام انهيار طبيعي متوقع في أسعار النفط، يقف أمامها الاقتصاد الريعي العراقي عاجزا عن إيجاد البدائل ومستسلما تماما لقوى ما قبل الدولة.