- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
نوستالجيا المجتمع العراقي والأجندات السياسية
بقلم: حسين فرحان
(الحنين إلى الماضي) هو التعريف المناسب لمصطلح النوستالجيا، حيث يلجأ الأنسان الى استذكار مراحل مضت من حياته محاولا استرجاع ماتناثر من تفاصيل للماضي حيث المنزل القديم والزقاق واصدقاء الطفولة والمغامرة وحتى الاشخاص الذين فقدهم بالموت أو بالهجرة.
القضية طبيعية - ضمن هذه الحدود - لكنها تحولت عند البعض الى حالة مرضية حيث يقع الأفراط في أن يصبح الشخص جزء من الماضي وقد عزاه بعض المختصين بهذا الشأن الى الهروب من الواقع السيء والغرق في هموم هذه الحياة أو بسبب تقدم العمر، فالماضي بالنسبة لمن أفرط بالتعلق به يعد حياة تم اكتشاف تفاصيلها ولم يعد فيها ما يخيف أو يسبب قلقا، بخلاف الحاضر ومشاكله والمستقبل وما يخفيه.
لم تكن النوستالجيا ذات يوم ظاهرة تمارس بشكل جماعي بقدر ماهي حالة طبيعية يعيشها كل إنسان وتختلف حدتها من شخص لآخر بحسب الظرف الذي يعيشه، ولكن وبعد تطور وسائل الإعلام بصورة عامة ومواقع التواصل الاجتماعي عبر الانترنت بصورة خاصة ظهرت النوستالجيا بشكلها الجديد الذي يتيح للجميع ممارستها بطريقة أخرى تتخذ شكلا جماعيا تتقارب فيه الرؤى والانفعالات، حتى أننا شهدناها بهيئة لم نعهدها سابقا - حين كان استذكار الماضي يتم بشكل فردي- وهي أن المادة الاعلامية المصدرة لها صنفت الماضي الى عقود زمنية أطلقت عليها (ذكريات جيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وغيرها....)، مما سهل على المتلقي أن يعيش ذروة ذكرياته بيسر ودون خلط بين العقود والسنوات.
أشتهرت هذه العاصفة الأعلامية بأسماء من أشهرها (ذكريات الزمن الجميل) و (ذكريات جيل الطيبين) وكل يرى الجمال والطيبة في زمانه دون زمان غيره رغم أن بعض الأزمنة حملت الويلات والحروب والكوارث، لكنها تبقى قناعات شخصية يضفي عليها الإعلام صبغة هو يريدها.
المجتمع العراقي كأي مجتمع آخر دخل في متاهة مواقع التواصل الاجتماعي واتجه الى نوستالجيا مخطط لها تخطيطا محكما قد وضع فيها السم في الدسم ولكن قبل أن نخوض في بعض التفاصيل ينبغي التعرف على تصنيف من نوع آخر أشارت إليه «سفيتلانا بويم»، في كتابها «The Future of Nostalgia»، حيث قسمت النوستالجيا إلى نزعتين:
((الأولى: نزعة استعادة (Restorative Nostalgia)، وتجعل من مفهوم «Nostos» أو العودة، المحرك لها، وتركز على إعادة بناء المفقود، ولا يفكر أصحاب هذه النزعة في أنهم يمتلكونها، بل يعتقدون أن مشروعهم السياسي يدور حول «الحقيقة». ونجد هذا جليًّا في الحركات السياسية والقومية خصوصًا في أنحاء العالم، والتي تتشارك محاولة إعادة صنع التاريخ واستلهام الرموز الوطنية والأساطير والحكاوي، وأحيانًا نظريات المؤامرة.
صعود الحركات القومية التي تدعو إلى استعادة الأمجاد في أوروبا وأمريكا، كمثال، يأتي نتيجةً مباشرةً لاقتناع الناس بأن الأحوال كانت أفضل في الماضي، رغم الحروب العالمية والأهلية والعنصرية ضد الأقليات والمهاجرين، التي بدأت تعود من جديد لتتصدر المشهد. وحتى على الجانب الآخر من العالم، لا يزال الروس يبكون أيام الاتحاد السوفييتي.
النزعة الثانية: اجترارية (Reflective Nostalgia)، وتدور حول «algia» المتمثلة في ألم الفقد، وهي نظرة أكثر شاعريةً نجد تأثيرها في الفن والأدب والشعر، وأيضًا حياتنا الخاصة.
ترتبط هذه النزعة، بشكل وثيق، بمحاولة الهروب من إحباطات اللحظة الراهنة وتسارع وتيرة التحديث والاستهلاكية. وتتحدث «سفيتلانا بويم» عن حركة التحديث والثورة الصناعية التي فرضت إيقاعًا جديدًا للوقت لا يترك للإنسان المعاصر فرصة للتفكير، والذي يأخذ حيزًا من الوقت لم يعد متاحًا.)).
الذي يهمنا من هذا الاقتباس هو النزعة الاولى (نزعة الاستعادة) وشواهدها - كما ورد - حيث تقوم بعض الحركات السياسية والقومية بمحاولات أعادة بناء المفقود واستعادة الامجاد ومحاولة إعادة صنع التاريخ وقد اتضح أن مصاديق هذه النزعة كانت حركات قومية في أمريكا وأوربا وبكاء روسي على إتحاد سوفيتي سابق، ولاننسى أن دونالد ترامب رفع شعار «اعيدوا أمريكا عظيمة كما كانت»، في انتخابات الرئاسة، وهو يعول على تأثير النوستالجيا وقدرتها على خداع الجماهير.
عودا على بدء، السم الذي وضع في الدسم لمجتمعنا العراقي هو أن منشورات الزمن الجميل وجيل الطيبين التي تحاكي آلام هذا الشعب لم تخل من إشارات لحركات وجهات سياسية تدعو لنفسها ضمنا وتحلم بالعودة مجددا كالبعث ومن على شاكلته حين يصور للناس أن الجمال والطيبة كانت في زمانه ولن تعود الا بعودته.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي