- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
القلق بين المشروعية واللامشروعية
بقلم: حسن كاظم الفتال
بسم الله الرحمن الرحيم
( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ـ الفتح /4
( الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ـ الرعد /28
إستهلال تنويهي
قبل الشروع بالحديث أو الإشارة أو السرد لماهية القلق وتعريفه وأسبابه وتداعياته وآثاره وانعكاساته وشرعيته وعدم شرعيته نقول:
يبدو أن البيئة التي يحيا فيه الإنسان هي البوصلة الأولى التي توجهه وتصنع شخصيته أو تتحكم بطباعه إن لم تكن هي مصدر الطباع حتى حين يكون للأسرة دور مهم إنما تتغلب قوة البيئة أحيانا وانعكاسات آثارها سلبية كانت أم إيجابية حيث أن الشخص أول ما يتلقى تعليمه الإبتدائي بعد الأسرة من محيط بيئته التي تساهم في صناعة كينونة الإنسان فتجعله شخصا متميزا ناضجا ناجحا يحقق النجاحات للآخرين فضلا عما يحقق لنفسه .وربما تصنع منه العكس مما يجعل وجوده يسبب خطورة على نفسه وعلى مجتمعه.
وهذه البيئة حين تكون مصدر سلوكياته فلا شك إنها ستتحكم بهذه السلوكيات.
ثم يأتي دور المدرسة والدراسة ولعل هذا إن صح التعبير وصدقت هذه النظرية فستكون الدراسة للتعليم الأبجدي كالقراءة والكتابة واكتساب المعارف وفيض من المعلومات وما هي إلا مكمل وحافز لامتلاك ثقافة عامة فضلا عن التخصصات العلمية.
فالشهادة الدراسية تحصنه من الوقوع في شرك الجهالة وتمكنه من اكتساب المعارف وحزمة من المعلومات التي يتم من خلالها تبلور الذهنية وتنوير العقل ليكون عنصرا نافعا للمجتمع ويساهم في خدمته . وليس غريبا حين نجد أن بعضا من حائزي الشهادات لا يستثمر الشهادة الدراسية إلا في توفير فرصة عمل تمكنه من العيش الكريم وتسد احتياجاته . أو لحمله عنوانا يميزه على أناس يحسبُهم أقل شأناً منه ولا يكون للشهادة أية غلبة في تكوين الشخصية عندما تترسخ مبادئ البيئة في مكنون النفس البشرية لبعض الأشخاص.
ويعرف العلماء البيئة بأنها هي إجمالي الأشياء التي تحيط بنا وهي مجموعة من الأنظمة المتشابكة مع بعضها البعض.
القلق حصيلة انعدام التوافق البيئي
لاشك أن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة طردية وطيدة وكثيرا ما يتم التلاحم بين الفرد وبين الأبعاد والتداعيات الأيدولوجية والسايكولوجية الثقافية والحركية البيئية مما يمهد لها أن تأخذ اثرها العميق فتؤدي إلى التلازم بين الصفات والطبائع وبين التأثيرات البيئية . وهذا التلاحم أو التفاعل مع البيئة إما أن يؤدي إلى تحسين الصفات أو تحفيزها والدفع بها نحو التسامي والرقي والنزاهة والنقاء وإما أن تُغَيِّب بعضا من محاسنها وتُسلب الفردَ التوازن وتنشئ انعدام الارتياح وعندها يشغل القلق في عمق النفس البشرية مساحة واسعة بل لعله يستحوذ على النفس وذلك ينتج الشعور بالتوتر والاضطراب والإحباط وربما يولد الخوف.
ومما لا يرقى له الشك أن للمناخ والطقس ومتغيراتهما وحتى للتربة وكل ما تنتج أثراً كبيرا على الفرد فضلا على أن عدم التوافق أو التأقلم او التكيف مع كل أبعاد المحصلات البيئية أو نتائجها كل ذلك يخلف الاضطرابات.
لذا نجد الكثير ممن يتعذر عليه التأقلم أو التكيف بقناعة تامة مع ما تنتج البيئة يكون وكأنه مجبولٌ على المعاناة من الآثار السلبية وينعكس ذلك على ذاته ونفسه وحتى أحاسيسه ومشاعره وحتى على جوارحه.
والقلق يتمحور بكيفيات مختلفة فثمة حالة من حالات القلق تبدو واضحة الظهور للعيان تماما يظهرها توتر الأعصاب وتغاير قسمات الوجه والتشنج أو حتى عدم التركيز أثناء التحدث أو ربما تظهرها التعابير غير المتسقة أو عدم التمكن من امتلاك المشاعر ودوام تعكر صفو المزاج.
أما بعض الأشخاص رغم شدة درجة القلق لديه إنما يسعى لأن يخفي قلقه واضطرابه لسبب أو لآخر ولكن ثمة ملامح تظهره ليكتشف من خلالها الآخرون قوة القلق في عمق نفسه إذ باللاوعي واللاإرادية تصدر بعض التصرفات لتعلن عن حجم ما يضمر من القلق ويبين أنه يعيش حالة قلق حادة.
قلقية الإصلاح وإصلاحية القلق
رغم أن القلق يعدُ حالة مزاجية وليست سلوكية وثمة فاصلة بين القلق والخوف إنما ربما يتحدان أحيانا ويمتزجان. فحين تشتد مرتبة القلق أو ترتفع نسبته ربما تُوَلِّد الخوف ويحدث هذا حين ينُذِر الواقع بوقوع أحداث لا خيار للتخلص منها.
وليس المقصود بالخوف الذي مصدره الرعب والرهبة والهلع بسبب الجبن أو الجزع . إنما الخوف الممدوح المبرر الطبيعي المباح الذي يخلفه الحرص في الدعوة لتحقيق أمر معين وهو نتيجة الترقب واليقظة والحذر الشديد من الإنزلاق في مهاوٍ معينة.
( إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ) ـ مريم / 45
هذا النمط من القلق يصاب به المصلحون أحيانا خصوصا الحريصين منهم على التقويم والتصحيح لمجتمع يُخشى عليه من الإنزلاق إلى مهالك الجهالة أو التخلف وتشير الوقائع إلى إنه يتجه نحو المجهول ويوشك أن يلاقي الإنهيار التام وذلك ما يسبب للداعي إلى الإصلاح خيبة أمل كبيرة فتخلف قلقا شديدا خصوصا حين تتمحور بغيته بالدفاع عن العقيدة والمبادئ والقيم الإنسانية والحفاظ على ديمومتها والسعي الجاد لرسم طريقٍ معبد يؤدي سلوكه لمستقبل أفضل.
إذ أن المصلح هو الناصح وهو الواعظ وهو الداعي لكل ما فيه الخير والصلاح والفلاح وهو الذي يتعمد الصمود بعزيمة وإصرار أمام التيارات الفكرية المنحرفة ويصر غاية الإصرار على صدها وكلما ازدادت شدتها ازداد قلقه المشروع وحرصه على إخماد جذوتها وشدتها وازدادت مقاومته وعزمه على تحقيق الاصلاح ونشره وشموليته.
ومن نافلة القول حين يبلغ الإنسان مرحلة النضج العقلي والفكري وتتنامى فيه نسب الوعي والإحساس يتنامى طموحه على أن يعم الخير وينتشر الوعي وتتهاوى وتندثر المآثم والموبقات ويذوب جليد الخطايا وتمحى آثار الجهالة وتأخذ المعارف دورها بالإنتشار.
إنما حين يلمس أن المحيطين به يشكلون خطرا على مسيرة العلم والمعرفة والثقافة العامة ومنها الثقافة الدينية فلا شك أنه سيتوجس خيفة ويصاب بخيبة أمل وخيبة الأمل هذه تولد القلق الشديد الذي هو أقرب لسلوكية الخوف
( إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) ـ الشعراء /135
ويبدو أن معظم المصلحين غالبا ما تعتريهم حالة الشعور الحاد بالقلق وهو القلق المشروع وإن كان مضادا تماما لحقيقة الراحة النفسية والإحساس بالإرتياح والإطمئنان.
النمطيات الإضطرابية
ربَّ قلق مؤقت تحدثه أزمة معينة أو حدث غير مرغوب به لا يستغرق الانفلات منه إلا وقتا قصيرا.
عكس ما يمكن أن يصبح صفة تلتصق بالإنسان تلازمه لفترات طويلة تسببها مجموعة من الإضطرابات وربما تتحول إلى حالة دائمة أو مزمنة مصدرها الشعور بمجهولية المستقبل أو تكهنات لأحداث ستقع مستقبلا.
وذلك ما يسبب إضطرابا فكريا تحقق نتيجته الإكتئاب المستديم ويبدو الشخص مكفهراً دائم الوجوم وهذا ما يُعرف الشخصية بأنها شخصية عصابية معقدة يصعب التعامل معها أو يستلزم الحذر في التعاطي معها. وليس غريبا أن شرارات القلق مرتبطة بالجينات مما يصعب التخلص منه أو التخفيف عنه وربما يكون القلق سببه وجود أثار نفسية أو حتى جسدية كالشعور بالضعف الجسدي أو وجود بعض العلل الخفية.
كما أن هنالك قلقا تحسسيا ينشأ في ذات الإنسان دون أن يعلم هو نفسه ما سبب هذا القلق، إنما توسوس له نفسه هو نتيجة ضغوطات مما تجعل حدوثه مسألة طبيعية.
أقرأ ايضاً
- ترامب الرئيس المثير للجدل والقلق
- العراق.. النظام بين الشرعية والمشروعية
- القلقُ سيِّد المَوقف عندَ قادةِ الإِطار