من المقطوع به أن الحديث عن كربلاء حديث عن تاريخ أمة وتراثها.. والحديث عن كربلاء حديث عن حضارة سادت البشرية وتركت آثارها هنا وهناك تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. والحديث عن كربلاء حديث عن مدنيّة متجددة تنهض هنا وتقوم هناك .. مدنيّة تستمد فاعليتها من موقد النهضة الحسينية.
ليست كربلاء البقعة الصغيرة المحصورة قبل عقود بين أحياء باب بغداد وباب النجف وباب الخان والمخيم.. ليست كربلاء جغرافيا هي: حي العسكري وحي الزهراء وسيف سعد وباب طويريج، وحتى لو ابتعدنا إلى أحياء أبعد من الأحياء القائمة اليوم فإن كربلاء ممتدة في عمق التاريخ البشري جغرافيا وزمانيا.
كربلاء هي حضارة أمة ومدنيّتها، تبسط ذراعيها بين مكة والمدينة، حيث كانت النشأة في مكة والنمو في المدينة والبناء في كربلاء، فكانت كربلاء الديمومة والاستمرارية والبقاء لهذا المنهج القويم الذي رفع لواءه رسول الإنسانية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
من زوايا هذا المثلث المقدس انطلقت أنوار الصلاح والإصلاح، فكانت كربلاء المفصل الذي غيّر وجه التاريخ.. التاريخ السلطوي الأموي الذي كاد أن يُلبس على عقول الأمة ويحرفها عن جادة الصواب لولا أنوف حمية ونفوس أبيّة جالت في ميدان الصراع الفطري فأوقفت عجلة الانزلاق في وحل الضلال.
إن تاريخ كربلاء تاريخ أمة جعلها الله وسطا لتكون شاهدة وشهيدة على الأمم، من هنا فإن الاحتفال بيوم كربلاء هو جزء من الوفاء لمكين هذا المكان، الذي أسبغ بتضحياته على هذه الأمة المهابة والمكانة.
فمثل هذه الاحتفالات ليست بدعا من الرسل، بل هي قسط من الواجب تجاه صاحب هذه المدينة التي تقدست به ومنه أخذت أصالتها ومكانتها، إنه صاحب الراية المحمدية الإمام الحسين بن علي (ع).
وللوفاء لهذه المدينة مظاهر ومصاديق كثيرة، ومن ذلك أن يتم التعامل مع تراث هذه المدينة تعامل الأرحام فيما بينهم، فكما أن صلة الرحم أمر عظيم، ينبغي أن نتعامل مع هذه المدينة المقدسة تعامل ذي رحم، نصونها كما نصون أعراضنا، نصون آثارها ونصون تراثها ونصون معالمها، ونصون سكانها ونحترم زوارها ونكون لهم الحاضنة والصدر الرحب، ونشكر الله في السراء والضراء، فكربلاء هي كل ما نملك، ولولا كربلاء لما بقيت للأمة من باقية ولأصبحت نهباً لكل طامع ومحتل.
قد لا نعرف قيمة هذه المدينة المقدسة إلا إذا قرأناها من لسان الآخر، وهنا أحدثكم بما حدثنا به الدلاي لاما زعيم البوذ في التبت في الصين، يقول الزعيم الروحي والسياسي للبوذ وهو في معرض الحديث عن الإمام الحسين (ع): \"إذا كانت لدينا نحن البوذ شخصيات مثل الإمام علي والإمام الحسين، وإذا كان لنا نهج البلاغة وكربلاء فإنه لن يبقى في العالم أحد إلا ويعتنق العقيدة البوذية، نحن نفتخر ونعتز بهاتين الشخصيتين الإسلاميتين\".
وحتى الذين أرادوا طمس معالمها واسمها بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة في محرم الحرام قبل سنوات انقلب سحرهم عليهم، فراحت وسائل الإعلام العالمية كلها وبمختلف لغات العالم الحية والمحلية تتحدث عن هذه التفجيرات المروعة وصار التساؤل على الألسن: ما هي كربلاء؟ من هو الإمام الحسين؟ ولماذا يعادونه؟ تساؤلات كثيرة راحت الأجوبة تعمّق في أذهان الغربي والشرقي اسم كربلاء.
لقد أرادوا ببغيهم طمس اسم كربلاء فكانوا أداة لنشر اسمها في الآفاق، وكما قال شاعرنا وخطيبنا المبجل الفقيد الدكتور أحمد بن حسون الوائلي (1928- 2003 م)، من بحر الكامل:
ظنوا بأن قتل الحسينَ يزيدُهم ... لكنما قتل الحسينُ يزيدا
فكربلاء معروفة في الشرق والغرب، وساهمت وسائل الإعلام الحديثة والفضائيات في سطوع اسمها، ولأن الإعلام مسلط على هذه المدينة في المناسبات الدينية والتظاهرات المليونية، فتزداد المسؤولية في صيانة هذه المدينة والحفاظ على طهارتها وقدسيتها بما أوتينا من قوة.
من هنا يأتي الجهد الكبير الذي يقدمه سماحة المحقق والبحاثة الدكتور الشيخ محمد صادق بن محمد الكرباسي، عبر دائرة المعارف الحسينية والموسوعة الضخمة التي يربو عدد أجزائها على الستمائة مجلد في ستين بابا صدر منها حتى يومنا هذا ستون مجلداً.
موسوعة ليست ككل الموسوعات .. موسوعة تتحدث عن كربلاء التاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب والفن والعمارة والتشريع والسيرة والقرآن، وما شاكل ذلك.. موسوعة كبيرة نهض بها ابن كربلاء البار الذي ولد فيها وسرت في شرايينه دماؤها، فكانت بحق موسوعة فريدة من نوعها، وهب فيها إبن مالك الأشتر النخعي الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كل حياته من أجل إظهار معالم النهضة الحسينية وفاءاً للإمام الحسين (ع) الذي ننعم بفضل نهضته المباركة بعبير الإسلام المحمدي الصادق، ووفاءاً لهذا المدينة المقدسة التي ضمت جسد سيد الشهداء من الأولين والآخرين والثلة الطيبة من أهل بيته وصحابته.
إن نحو عقدين من المعايشة مع المؤلف والعمل المتواصل أو المنقطع معه، وقراءتي المتعمقة لما خطه يراعه في أجزاء دائرة المعارف الحسينية جمعت بعضها في كتاب \"نزهة القلم\" الذي تفضلت الحكومة المحلية في كربلاء المقدسة وعلى رأسها سعادة المحافظ الموقر الأستاذ المهندس آمال الدين الهر بطباعته تكريما لكربلاء ولمن يكتب عن كربلاء، يجعلنى أقول وبضرس قاطع: إن الكرباسي للحسين كما كان مالك لعلي وكما كان علي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول ويشاركني الرأي الكثير من الحضّار ومن يسمع أو يقرأ قولي: إن نداءات النصرة في كربلاء لم تنقطع مع انقطاع الوتين من الرأس الشريف عصر عاشوراء عام 61 هـ، فنداء النصرة لا زال يدوي في مسامعنا ويطير في الآفاق، فإذا لم نستطع نصرة الإمام الحسين (ع) بسيوفنا، فنستطيع نصرته بقلمنا وبأعمالنا الصالحة وتحمّل أعباء رسالته الخالدة في الإصلاح والصلاح والبناء واحترام القانون، وبخاصة فيما يتعلق بهذه المدينة المقدسة وحمايتها من الأذى، وهو أمر ليس بالهين، فالولاء ينبغي أن يترجم إلى واقع عملي، وهو يبدأ من الذات. نص الكلمة التي ألقيت في مهرجان يوم كربلاء بالعراق في الأول من شعبان 1431 هـ.
أقرأ ايضاً
- صفقات القرون في زمن الانحطاط السياسي
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود
- ظاهرة الحج السياسي