د. إبراهيم الجعفري
التملّقُ هو التودّدُ والتحلي بلين الكلام وكل مايظهره صاحبه من مظاهر التضرّع تجاه الآخر مما ليس في قلب المتملّق.. يكثر التملّق لدى أصحاب الحاجات لمن بيدهم مقاليد المسؤولية أو في حوزتهم وفرة الأموال..
ويشيع في مثل هذه الأوساط تقديم ما يريح الآخر بالباطل من مدحه وذم خصمه! لا شك أنّ ضعف النفس يدفع صاحبه للشعور بالتعالي على الآخرين والنظر اليهم بعدم الاحترام؛ وتعكس مثل هذه النظرة الإحساس بعقدة الحقارة لدى صاحبها وضعف ثقته بنفسه!! تكرار المديح لمن لم يستحقه يولد لدى الممدوح ما يؤدي الى تراكم الشعور بالانتفاخ وتراكم ذم الآخرين، هو الآخر يسبب لديه حالةً من احتقار الآخرين وهي أيضاً مزيفة وتتفاعل هاتان الحالتان مع ما يكمن في داخله من شعورٍ في النقص ليتعاظم عنده الإحساس بالأنا التي قد تصل به حدَّ تأليه الذات، (أَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَٰهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً(...
لقد وقفت الأديان من هذه الظاهرة الصنمية المنحرفة موقفاً صارماً فمنعت جذورها في تحريم (شهادة الزُّور) وتحريم (كتمان الشهادة) بل في تحريم (مدح من لم يستحق المدح) لتصون المعطي من مغبة التعوّد على أدب التملق!! كما تصون المتلقي من اللهاث وراء المدّاحين والمحرّضين..
قال الإمام علي عليه السلام: " مَنْ مَدَحَكَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ مِنَ الجَمِيل وَهُوَ رَاضٍ عَنْكَ ذَمَّكَ بِمَا لَيْسَ فِيكَ مِنَ القَبِيح وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْك". وعنه عليه السلام وهو يخاطب أحد المتملّقين: "أَنَا دُونَ مَا تَقُولُ وَفَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ"؛
سيل الأكاذيب الجارف لا يقف بوجهه إلّا سد الردع بالامتناع من تقبّله ومنع انتشاره..
والمجتمع الذي يفتقد الى مناعة تقبل الأكاذيب يقع بأخطر الأمراض الأخلاقية ويموت معنوياً!! تماماً كما يحصل لمصاب مريض الإيدز إذا فقد الجهاز المناعي وأصبح عرضةً للاصابة بأيِّ مكروب!!
فقدان الثقة في أي علاقة يجعل أطرافها عرضةً لتصديق أي أكذوبة! لن أنسى قصة حرس الحاكم الخاص الذي صفعه ظلماً الحاكم العام! وحكَمَ له الحاكم الخاص بالاقتصاص بضربة مماثلة، ما كان من الحارس البسيط إلا أن يقول له: لا أضربك لكن كنت أثق فيك ولم أعد كذلك؛ هذه أقوى من أقوى ضربة.. سيول الأكاذيب من شأنها أن تجرف كل ما تواجهه من غير المُحَصَّن بسدود التأمّل..
أقرأ ايضاً
- النخب الثقافية وسيولة المواقف من المنظومة السلطوية
- الغاية من القانون الردع لا العقوبة
- السيولة العامة ومشكلات الائتمان في العراق