- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
النخب الثقافية وسيولة المواقف من المنظومة السلطوية
بقلم: إياد العنبر
وأنا أطالع كتاب "حكمة الغرب" للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، وجدت في سيرة حياته التي قدمها مترجم الكتاب الدكتور فؤاد زكريا، أنّ راسل الذي عاش قرنا من الزمان (1872-1970)، قد سُجن مرتين بسبب مواقفه السياسية. الأولى كانت بسبب موقفه الرافض للحرب العالمية الأولى ودفاعه عن السلام، وحُكم عليه بالسجن ستة أشهر في العام 1918. أما المرة الثانية، فكانت في 1961 حين دخل السجن مدّة أسبوع وهو في التاسعة والثمانين، بسبب نشاطه في محاربة التسلّح النووي.
ربما محاولة عبثية مني مقارنة مواقف فيلسوف مثل برتراند راسل الذي عاش في بلدان ديموقراطية، بمواقف نخب ثقافية في بلداننا لا تملك إلا خيارين: الديكتاتورية وبطشها بمن يعارضها أو ينتقدها بموقف أو كلمة، وفوضى الديموقراطية التي يتداخل فيها السلاح والسياسة. بيد أن الموضوع ليس من باب المقارنة، وإنما بحثا عن مثقف المواقف.
يقول هربرت ماركيوز في كتابه "نحو ثورة جديدة": "موتُ المثقَّف يكمن في تخلّيه عن وظيفته المتمثلة في تحرير الوعي من الأوهام، ورفض الأوضاع السائدة. إن مهمّة المثقف هي صون الحقيقة من الضياع، المثقف هو مَن يرفض التسوية مع الفئات المسيطرة".
تكمن محنة المثقف في الموقف من تلك الفئات المسيطرة في بلداننا التي باتت توصَف بالدول الفاشلة أو الهشّة، والتي تعدد ما بين أوليغارشيات سياسية، أو قوى دينية وعشائرية وجماعات تعتاش على نفوذ السلاح المنفلت وسطوته، وتفرض سيطرتها على الكيان السياسي الذي نعيش فيه! من هنا لم تعد محنة المثقف في مواجهة الحكومات الديكتاتورية فحسب، وإنما تغدو أعقد عندما تعيش في واقع اللادولة.
محنة المثقف تكمن في الموقف من تلك الفئات المسيطرة في بلداننا التي باتت توصَف بالدول الفاشلة أو الهشّة، والتي تعدّد ما بين أوليغارشيات سياسية، أو قوى دينية وعشائرية وجماعات تعتاش على نفوذ السلاح المنفلت.
في الأحداث السياسية الكبرى التي يمرّ بها أيّ بلد، تكون مواقف النخب الثقافية هي المرآة العاكسة للمواقف الاجتماعية، التي يعتمدها المؤرّخ في تسجيل تلك الأحداث وقراءتها. في العراق، غالبا ما تتعامل النخب مع الأحداث السياسية بثلاثة مواقف: الأول هو الاستلاب السياسي، إذ تشعر بأنها مستلبة الإرادة ولا يمكنها أن تؤثر في تطوّرات الأحداث ولا تتحكّم بتوجيه الرأي العام فيها. الثاني هو موقف الاغتراب السياسي الذي تعتقد فيه أنها ليست من يصنع الأحداث والمواقف السياسية ويحرّكها، وأنّ كلًّا من الجمهور والسلطة لا يستمعان الى مواقف النخب ورؤيتها ولا يتأثران بها. أما المواقف الانتهازية فهي ثالث المواقف التي تعبّر عن توجهات النخب من القضايا السياسية، وتسعى من خلالها إلى التقرّب من أحزاب السلطة والحكومة وتكون متماهية مع مواقفهما أو تسعى إلى تبريرها، والغاية من ذلك الحصول على منصب سياسي أو إداري في مؤسسات الدولة.
إحتجاجات تشرين
في فترة ما بعد إحتجاجات أكتوبر / تشرين الأول 2019 لم تختلف هذه المواقف كثيرا، بل إن الاحتجاجات كانت كاشفة لتلك المواقف الثلاثة. لكنّها –أي حركة الاحتجاج- قدمت نموذجا نخبويا متميّزا من أكاديميين وصحافيين وأدباء وفنانين كان لهم حضور فاعل ومؤثر في ساحات التظاهر، وكانت كتاباتهم ومنشوراتهم تعبّر عن "مثقف الموقف" الملتزم قضايا شعبه وجمهوره.
وصف هشام شرابي هذه الفئة من المثقفين بـ"الملتزمين"، إذ يتوفّر لدى هؤلاء الوعي الكامل مع الممارسة الكاملة، ولا يمكن التفريق بين حياتهم الشخصية والعامة ويمثلون الطليعة المثقفة التي يقع التغيير الاجتماعي على عاتقها، ولا ينتمون إلى طبقة واحدة، وإنما الذي يجمعهم هو الوعي الكامل لقضاياهم والممارسة الواحدة.
في المقابل، كانت بعض المواقف النخبوية تتماهى مع خطاب السلطة وأحزابها، على أمل أن تكون حاضرة في خياراتهم عندما يُعاد توزيع المناصب، وهذا ما حدث فعلا في حكومة الكاظمي عندما تحوَّلت مواقف بعض النخب من التشكيك والطعن في حركة الاحتجاجات إلى تبنّيها والدفاع عنها حينما طُرحت أسماؤهم للمناصب الوزارية، ولذلك مثلما كان حضور "النخبوي الملتزم" فاعلا ومؤثرا بين الجمهور، كان حضور "النخبوي الانتهازي" ذا حظوظ عالية في أروقة قصور أصحاب السلطة.
وفي حكومة محمد شياع السوداني، التي تعدّ حكومة الإطار التنسيقي الذي يعمل بثنائية السلاح والسياسة، كان هناك نوع من التماهي مع هذه الحكومة وعدّها حكومة الأمر الواقع، ولم يكن موقف النخب واضحا في شأن حكومة السوداني، ربما طمعا بمغنم الحصول على المناصب أو تنامي شعور الاستلاب السياسي.
ديموقراطيات هشّة
في الديموقراطيات الهشّة، التي تتحكم بها قوى اللادولة، يكون المثقف إزاء محنة أعقد من محنة المثقف مع الحكومات الديكتاتورية، إذ في الديكتاتورية يكون الموقف محصورا بين ثلاثة خيارات: الهروب، أو الانعزال، أو التبعية للسلطة.
أما في الديموقراطيات الهشّة فالمحنة تكون مركّبة. المحنة الأولى تكون أمام تحدّي الثبات على المبادئ والأفكار التي يطرحها المثقف أو يدعو إليها، وبين الانفتاح الذي يشهده المجال العام للمشاركة في السلطة، وهنا نكون أمام عقدة أخرى، فالأحزاب والقوى السياسية المتنفذة لا تؤمن بمبدأ الكفاءة والخبرة، وإنما معيارها الأول والأخير هو السمع والطاعة لِمن تَمنُ عليه بمنصبٍ سياسي، إذ الحصول على المنصب لا يتمّ إلّا من بوّابة القبول والرضا الحزبيين والقبول بمبدأ الشراكة في نهب المال العام.
أمّا المحنة الأخرى، في الديموقراطيات الهشّة، فهي ضعف الدولة وعجزها عن أن تكون المؤسسة المتعالية عن التناقضات والانقسامات المجتمعية والقوّة القادرة على احتكار العنف المنظَّم، وتتحوّل بدلا من ذلك إلى مؤسسة تتقاسمها قوى لا تؤمن بالدولة أصلا، وتعمل وفق منطق جماعات ما قبل الدولة. وهذه الجماعات تملك السلاح الذي يعلو على سلاح الدولة. لذلك تجد هامشا من الحريّة متوفرا نوعا ما، لكن يمكن أن يكون ثمن الكلمة والموقف هدر دم المثقف، فلا سلطةَ تحميه من بطش الجماعات المسلّحة التي تعتبر كلمته وموقفه أفتك وأضرّ برمزياتها السياسية والدينية.
ازدواجيّة المثقف
في البلدان التي تسيطر فيها قوى اللادولة على النظام السياسي، يمكن تشخيص ازدواجيّة المثقف بصورة أوضح من البلدان التي تحكمها حكومات ديكتاتورية، ففي الحالة الأولى تجده ينتقد الفوضى ويتباكى على انعدام الدولة، لكن في المجالس الخاصّة فقط.
وعندما ينتفض الجمهور ضدّ قوى اللادولة وفسادها وهيمنتها على مؤسسات الدولة يتّخذ جانب الحياد أو الصمت، أو في أفضل الأحوال يكون ناقدا بأسلوب مخملي للحكومات، ولكنّه لا يجاهر بنقد قوى اللادولة، في حين يمكن أن يكون ناقدا لاذعا لأيّ تصرّف عفويّ من قبل الجمهور!
محنةُ المثقف الملتزم مع واقع اللادولة، تجعله يخوض معركتَين: الأولى أمام عجز الدولة وغيابها عن المجال العام، والثانية في مواجهة قوى ظلامية متطرّفة، لا تتهاون مع من يعمل على تعريتها أمام جمهورها، ويكشف زيف ادّعاءاتها وتستّرها خلف شعارات ورمزيات تستغفل الشعب.
لا يمكن تبرير تحوّل "المثقف" إلى رقم إضافي في منظومة الخداع والنفاق السياسيين، فتلك خطيئة لا يمكن للتاريخ أن يغفرها لأنَّ الجماهير تبقى وحدها تواجه الخديعة والتضليل من قبل السياسيين وحفنة من المثقفين.
أغلب مثقفينا الآن ليسوا أيديولوجيين، وقد تكون هذه ميزة إيجابية، لكنّها سلبيّة لأنَّ الكثير من دعاة الثقافة باتوا غير ملتزمين مبدئيا، ولا نعرف لهم أي التزام مبدئي، وتحوَّل كلّ منهم إلى "مثقف سائل" يتحوَّل موقفه حسب متطلبات العرض والطلب في بازار السياسة، سواء أكان من قبل السلطة أو قوى اللادولة. ومن ثمَّ بات المثقف غير الملتزم قضايا الجمهور ولا مبادئ النخبوية، يجد في التقرّب من السلطة فرصة لتعزيز مكانته الاجتماعية أو موارده الماليّة، فالمعرفة في النهاية قد يكون هدفها السلطة والحضور، كما يعتقد بذلك ميشال فوكو. ولا يهمّ كيف يكون الطريق للوصول إلى حاشية السلطة، إذا يمكن أن تتحالف مع القوى التقليدية والأوليغارشيّات السياسية في سبيل المنصب.
إغراءات
عندما يكون المثقف أو النخبوي ضعيفا أمام إغراءات القوى السلطوية، التي تجيد فن الإغواء وتحاول تجميل صورتها أمام الجمهور من خلال استقطاب بعض العناوين النخبوية في حكومات "التكنوقراط"، يتحول إلى مشارك في منظومة الحكم ولا يمكن أن يكون بريئا من فشلها وفسادها، وفي النتيجة لا يمكن أن يبقى يتلاعب بالمواقف من نقد القوى السلطوية إلى مشاركتها في مغانم السلطة. ومن ثم، العودة مرة أخرى إلى انتقادها. لا يتحول من مثقف إلى منافق سياسي!
قد نتهم بالقسوة أو جلد الذات، عندما ننتقد التحوَّل في مواقف المثقف، ونجده ينتقل من موقف إلى آخر نقيض لما يدعو إليه، كما يحدث في بلداننا، ويكون كلّ هدفه الدخول في منظومة السلطة والتحوّل من ضمن حاشيتها، ليس لمشروع ثقافي أو سياسي، وإنّما لإرضاء الغرور الذاتي، أو أنه يجب أن تكون له حصّة من مغانم السلطة تحت تبرير معيار الكفاءة. وعلى الرغم من ذلك لا يريد أن ننتقده لأنه يبقى مثقفا حتى وإن تحوّل إلى ذيل ومدّاح لمن هم في السلطة. سواء أكان النظامُ ديكتاتوريا، أو نظاما سياسيا عنوانه "ديموقراطية" وواقعه بعيد تماما عن الديموقراطية، بل هو واجهة لمافيات سياسية تهيمن عليه قوى اللادولة.
قد يُمكن للبعض أن يتلمّس الأعذار للمثقف الذي يتماهى مع هذَين النموذجَين في الحكم، لكن لا يمكن تبرير تحوّل "المثقف" إلى رقم إضافي في منظومة الخداع والنفاق السياسيين، فتلك خطيئة لا يمكن للتاريخ أن يغفرها لأنَّ الجماهير تبقى وحدها تواجه الخديعة والتضليل من قبل السياسيين وحفنة من المثقفين.
أقرأ ايضاً
- المرجع السيستاني.. المواقف تتكلم
- صناعة المواقف الوطنية في الحروب والازمات
- معركة طوفان الأقصى.. التداعيات المتسارعة والمواقف الأمريكية الواضحة !