حجم النص
بقلم:عباس عبد الرزاق الصباغ من حسنات التغيير النيساني الذي أرسى قواعد الديمقراطية في العراق شيوع مفاهيم سياسية لم تكن معروفة أو متداولة في الأوساط الجماهيرية او كانت محظورة تماما حتى على مستوى التفكير بها فضلا عن التعاطي معها او تعاطيها ممارسةً وتطبيقاً او تنظيراً وكانت هذه المفاهيم خطوطا حمرا للسلطات المتعاقبة ويُعد طرحا مساسا او "كفرا" بشخص الحاكم وذاته الذي يكون عادة وحده لاشريك له او مناوئ ومن جملة هذه المفاهيم المحظورة والمغيَّبة ثقافة التداول السلمي للسلطة سواء أكان ذلك في العهد الملكي أو في العهد الجمهوري الذي كان جمهوريا بالاسم فقط كما إن ديباجات معظم دساتير الحكومات المتعاقبة ـ إن لم تكن كلها ـ قد خلت من مبدأ التداول السلمي للسلطة وحتى فكرة "التداول" بأي شكل كانت لم تكن مطروحة او يُسمح بطرحها ولم يكن بمتناول أي شخص ان يطرحها خشية الاستبداد والقمع الذي كان تمارسه تلك السلطات ضد من يتجرأ بطرح فكرة التداول بعد أن شاعت مفاهيم سياسية خاطئة هي اقرب الى الغوغائية منها الى الثورية الشرعية مثل مفهوم "ثورة " وانقلاب أي قيام مجموعة هي دائما مجموعات عسكرية نظامية ام مليشياوية مسلحة بتغيير نظام الحكم بنظام آخر (أي تغيير وجوه بدل وجوه اخرى) وهذا التغيير أو الاستبدال تتخلله الكثير من المجازر وانتهاكات مريعة وفظائع لحقوق الإنسان وغير مبررة من التي يذهب ضحيتها الأبرياء والذين غالبا ليس لهم ناقة او جمل في هذا "التغيير". الا ان الحال بعد الزلزال النيساني 2003 قد تغير وتبدلت الكثير من المفاهيم والثقافات سواء في درجة التقبل لهذه المفاهيم او في درجة الاستيعاب والنضج لها فالانقلاب العسكري لم يعد ثورة في المخيال الشعبي العراقي كما ان نشاطات المليشيات المسلحة من أي لون مذهبي او اثني كانت هي نشاطات خارجة عن القانون ولاتمثل جهة ما إضافة الى ان الدستور العراقي الدائم وهو الدستور الذي صوتت عليه أغلبية الجماهير العراقية قد تضمن هذه الفكرة (التداول السلمي للسلطة) التي كانت محظورة تماما طيلة العقود التسعة التي أعقبت تأسيس الدولة العراقية الحديثة (1921) [المادة (6):- يتم تداول السلطة سلمياً، عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور.] مرورا بالتأسيس الثاني وهو الذي أطاح بالملكية الدستورية وجاء بالجمهورية الشكلية ناهيك عن فترتي حكم وتسلط حزب البعث المنحل، الفترتان اللتان حُكم فيهما العراقيون بالحديد والنار واُغرقت فيهما البلاد بالدماء والحروب والمقابر الجماعية فصار مبدأ التداول السلمي للسلطة محض خيال عقوبته الموت او التغييب القسري. ومن جملة هذه المفاهيم السياسية التمييز بين مفهومي الدولة والحكومة وعدم ارتباطهما بشخص الحاكم ارتباطا عضويا فالحاكم بالمفهوم الديمقراطي هو مجرد موظف رفيع المستوى يقود الحكومة في الدولة وهو منتخب وفق آليات انتخابية معينة ويمارس وظيفته بحب الأنساق الدستورية المتفق عليها وبمدة زمنية يحددها الدستور قد تكون قابلة للتمديد بحسب ظرف البلد ليتم بعدها عملية تداول السلطة مع آخرين يأتون بذات الآلية والهدف فليست السلطة حكرا لأحد وليس من حق احد احتكار السلطة خارج السياقات الدستورية الديمقراطية فقد ولى زمان الاحتكار واختزال البلد (دولة وحكومة وشعب ومقدرات ومرتكزات) بشخص واحد او جهة او حزب وولت فلسفة اذا قال الحاكم قال العراق وزالت شعارات الاوحدية والواحدية والفردية الصنمية والهتاف بالروح بالدم نفديك يا (.....) والرمزية المطلقة التي يكون فيها الحاكم شبه إله وولي النعمة والمستبد المطلق وانزاح شبح الانقلابات وخروج الحاكم ذليلا مهانا او إخراجه بهذه الصورة التي تسيء اكثر الى سمعة البلد في الأوساط الدولية كما أزيح كابوس "الزعيم" الذي يظل جاثما على الصدور لعقود من الزمن وقد حاولت بعض وسائل الإعلام المغرضة اللعب على ذات الوتر برسم صورة مشوهة عن العملية السياسية الديمقراطية في العراق بأنها عبارة عن منظومة تناحرات يترأسها نظام ديكتاتوري وتسويق هذه الصورة بإكسسوارات سيا / طائفية مبيتة غاضةً النظر عن الأنظمة الديكتاتورية التي تعج بها بلدان العالم الثالث ومنه الشرق الأوسط المبتلى بها والأمثلة كثيرة جدا... لقد كان تسليم السلطة من قبل السيد المالكي لخلفه رئيس الوزراء المكلف السيد العبادي تعبيرا عن الشعور بالمسؤولية وتعبيرا عالي المستوى على النضج الذي وصل اليه المسؤولون العراقيون لاسيما رفيعي المستوى كشخص مثل السيد المالكي الذي ترك بصمات جلية على مجمل مفاصل العملية السياسية وهياكل الدولة العراقية وخاصة ملفاتها المأزومة والساخنة والمتشابكة وقد ألقم السيد المالكي حجرا في أفواه جميع من سولت له نفسه بالإساءة الى العراق وشعبه ووصفت تسليم السلطة وفق السياقات الديمقراطية بانه "تنحي" او ما شابه وكأن المسالة هي مارثون سياسي وتغالب مرير على السلطة والبقاء للأقوى والأكثر نفوذا ورسم السيد المالكي بتسليمه للسلطة خارطة طريق واضحة لمن يروم التعاطي مع الشأن العراقي والعملية السياسية الجارية في العراق، نعم انه درس في الديمقراطية. إعلامي وكاتب مستقل [email protected]
أقرأ ايضاً
- العراقيون يفقدون الثقة في الديمقراطية
- أعراض مرض الديمقراطية تسبق اغتيال ترامب
- الإبادة الجماعية في غزة ونفاق الديمقراطية الغربية