- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التنوير في مواجهة الظلامية الدينية ..!
حجم النص
بقلم :شاكر فريد حسن
عادت قضية الارهاب الفكري القمعي ، الذي تمارسه التيارات الجهادية والتكفيرية والاخوانية المتأسلمة، والجماعات الاصولية السلفية المتطرفة ، لتصبح العنوان العريض والشغل الشاغل للمثقفين الديمقراطيين النقديين ، ولقوى التقدم والديمقراطية والحرية، ولمجموعات اليسار والمعارضة في البلدان العربية .
فيوماً بعد يوم ، وعاماً بعد عام، تشتد اعمال التطرف الديني والفتنة الطائفية ، ويتصاعد العنف السياسي والارهاب السلفي والممارسات الظلامية العدائية ضد الفكر التنويري ، وضد رموزه من رجالات الثقافة والفلسفة والنهضة والمعرفة والاصلاح والعقلانية ،وتتزايد الاعمال الغوغائية التي تنفذها وتشارك فيها قوى الجهالة والتخلف والظلام ، وغلاة التعصب المتسترين وراء عباءة الدين ، الذين يغطون جرائمهم بالجلباب الابيض، ويخفون ارهابهم باللحى السوداء ،ويلجأون الى السلاح والعنف لفرض ارائهم ومعتقداتهم. فهذا الفكر العظيم بنزعته الانسانية ورؤيته التقدمية يزعجهم، وافكار الفلاسفة والنهضويين والاصلاحيين وعقولهم المشعة وانسانيتهم العميقة ومقارباتهم الجريئة الشجاعة والمنهجية لقضايا وشؤون ومسائل الدين والتراث والشعر الجاهلي، تغضبهم وتؤرقهم.
ولا شك ان هذه التيارات السلفية الرجعية تريد، بافكارها ومعتقداتها ومفاهيمها وارائها الدينية المتشددة والمتعصبة والمنغلقة وممارساتها القمعية، تغييب العقل والوعي، ووأد ومحاصرة التنوير الفكري الفلسفي العربي ، وازاحة العقلانية من فضاء حياتنا العامة ، وتسييد الجهل ، واغراقنا بالظلامية ، واعادتنا الى الوراء ، الى عصور الجاهلية وازمنة التخلف وكهوف ودياجير الظلام.
والواقع ان المفكرين التنويريين والمثقفين التقدميين كانوا دائماً ضحايا تعسف الحكام الطغاة والحركات الدينية الرجعية، وتعرضت مؤلفاتهم وكتبهم واعمالهم للحرق . ولا يغيب عن اذهاننا وذاكرتنا مأساة الفيلسوف العربي الاندلسي القرطبي ابن رشد ، الذي حاول رد الاعتبار للعقل الفلسفي والمعرفي والنقدي في كتابه "تهافت التهافت" الذي جاء رداً على طروحات وافكار واراء الغزالي ، لكنه زج في غياهب السجن ، وتم جمع كتبه ، التي بلغت اكثر من 180كتاباً، واشعلت فيها النار ، وبذلك انتصر النقل على العقل ، والسلفية على التجديد والعصرنة والانفتاح.
والمأساة ذاتها حصلت في زماننا وعصرنا الحاضر مع الفيلسوف والمفكر التقدمي العقلاني الكبير الشهيد حسين مروة ، الذي شق دربه كرجل دين ثم تبنى الفلسفة المادية وانخرط في الحركة اليسارية منتمياً للحزب الشيوعي اللبناني ، الذي كان احد قادته ومفكريه ومنظريه ، ووضع كتابه الضخم والهام "النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية " الذي اثار جدلاً وسجالاً كبيراً ، وتعرض فيما بعد للاغتيال على ايدي ظلاميين اسلاميين متطرفين ، مستهدفينه رمزاً تنويرياً في ثقافتنا العربية الاسلامية ، ومفكراً جسوراً من طراز خاص ، وصاحب مآثرة خاصة في اخراج التراث من محنطاته. كذلك امتدت هذه الايدي الخسيسة والجبانة لتغتال المفكر الشهيد حسن حمدان المعروف بمهدي عامل ، الذي اثرى خزانة الفكر التقدمي العلماني والثقافة الانسانية المستنيرة بكتاباته واطروحاته وجهوده ومداخلاته الفكرية ومنجزاته البحثية ذات العمق الايديولوجي الفلسفي المعرفي .
ولم يسلم من هؤلاء الظلاميين الجهلة ، الذين يحملون راية التعصب والتكفير، ولا يتقنون سوى لغة العنف والرصاص، ويرهبون المجتمع بالسوط والسيف وسلاح الارهاب الفكري، العديد من المفكرين والمثقفين والمبدعين ، الذين وجدوا انفسهم في مواجهة مع الموت ، وهدفاً للتهديد والتصفية والاغتيال الجسدي ، بمجرد الخوض في مسائل خلافية وعقيدية حول مسلمات دينية . فقد هاجموا عميد الادب العربي الدكتور طه حسين بعد صدور كتابه "في الشعر الجاهلي " ، واهدروا دم الروائي نجيب محفوظ وحاولوا تصفيته ، واغتالوا شهيد الكلمة الحرة المناضل التنويري العنيد فرج فوده ، الذي خاض معركة فكرية شجاعة ومتواصلة ضد تيارات مختلفة تنتمي للاسلام السياسي المعتدل او المتطرف ، انتهت بطريقة تراجيدية ،حيث اغتيل في وقت كانت مصر تشهد تصاعداً مطرداً في اعمال العنف والاغتيالات والتصفيات الجسدية . وايضاً شنّوا حملات تحريضية شعواء على الكثير من الاسماء والعناوين الثقافية منهم الروائية والكاتبة والمناضلة المصرية نوال السعداوي وزوجها شريف حتاته ، والشاعر احمد عبد المعطي حجازي ، صاحب الآراء الصدامية والمتناقضة المثيرة للجدل ، الذي خاض معارك ثقافية وفكرية كثيرة ،وتعرض لاتهامات التكفير والالحاد لمواقفه وارائه السياسية والفكرية ، وبيع اثاث بيته في المزاد العلني بقرار من المحكمة .
كما كفروا الراحل الدكتور نصر حامد ابو زيد بسبب ابحاثه العلمية ، التي اراد من خلالها انقاذ القرآن الكريم من الحالة التقليدية، التي تؤدي الى تشويه جوهر الدين الاسلامي المتسامح المتنور والمنفتح ، واعادة تفسيره وتأويله من منظور هموم الانسان المعاصر ، وفرقوا بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس ، استاذة الادب الفرنسي، بحكم قضائي صادر عن المؤسسة الدينية المصرية ، وتم نفيه خارج الوطن حيث اختار هولندا منفاه الاختياري القسري.
ويضاف الى هؤلاء المفكرين الكاتبة والناقدة التونسية الدكتورة رجاء بن سلامة ، التي تعرضت لقمع فكري وهجوم شرس وصل الى حد اهدار واباحة دمها ودفع طالباتها ليشهدن ضدها .وهنالك عدد آخر من المثقفين الليبراليين المسلمين اضطروا للهجرة القسرية ليسلموا بجلودهم ومواصلة نضالهم الفكري لاصلاح المجتمع وتحرير الخطاب الديني من التعصب والتطرف والانغلاق . وها هي الظلامية اليوم تغتال المناضل الحر والمفكر والناشط السياسي التونسيشكري بلعيد، وتطال تمثالي ابو العلاء المعري في سوريا وطه حسين في مصر ، فقد اعتدت خفافيش الليل على التمثالين وقامت بتحطيم رأس تمثال ابو العلاء وسرقة رأس تمثال طه حسين ، والهدف من وراء ذلك طمس ارثهما الفكري والفلسفي والادبي والشعري المضيء، باعتبارهما من طلائع الفكر والادب الانساني الرفيع ، وعمالقة الثقافة العربية المتنورة .
ان مجتمعاتنا العربية تمر بمرحلة قاتمة وحالكة ، وتشهد حالة ظلامية ورجعية فيما عليها الآن ، حيث يسودها الخطاب التقليدي المناهض للتنوير والعقلانية ، عدا عن اتساع مساحة التطرف والقمع الديني ، واستشراء الغلواء المذهبية والطائفية البغيضة والمقيته ، وغياب الوعي المؤدلج ،وانحسار الفكر المعرفي التنويري نتيجة اسباب وعوامل كثيرة . وامام هذه الحالة لا بد من التصدي بكل قوة وصلابة للخطاب الرجعي والتقليدي السلفي بكل تجلياته وصوره ، الذي يتأسس ويقوم على تخلف الفقراء وادامة جهلهم وتبرير الديكتاتورية ، وضرورة الخلاص من محنة الثقافة الديمقراطية والنقدية بالعودة الى تراثنا الفكري العقلاني وينابيع ثقافتنا العربية الاسلامية ، واستيعاب الفكر الديني على نحو جديد متحرر من السلفية الرجعية ، وتوظيف هذا الاستيعاب بما يخدم بناء وتطور مجتمعاتنا العربية . فالواقع الراهن يشهد انحطاطاً وارتكاساً في مهاوي التخلف،وتكميماً للافواه وتكسيراً للاقلام ، ويفرض تنويراً حداثياً وتجديدياً وثورة فكرية في العقل العربي لتغييره، واستعادة مكانة العقل وتجاوز المحاولات التأسيسية لرود النهضة والاصلاح ، نحو الخروج من ظلمات التقليد الزائف والموت والاحتضار الى نور الحياة والتنوير ، وهذاالامر يتطلب ارساء العقلانية والاستنارة والفكر العلمي الايديولوجي والثقافة الجديدة الحقيقية والفن الاصيل الملتزم .
اننا ندعو كل القوى المؤيدة للمجتمع المدني وللديمقراطية والاستنارة ،والرافضة للدولة الدينية والتفرقة الطائفية، لتوحيد جهودها ومعاركها الفكرية الحضارية بهدف انقاذ اوطاننا من براثن الارهاب الاصولي ومن الاخطار المحدقة التي تحيق بشعوبنا المتطلعة نحو افق الحرية . فقد آن الأوان لمواجهة حقيقية شاملة ذات مستوى شعبي وجماهيري ، لا يمكن تحقيقها دون رفع السلاسل والقيود عن الاحزاب والقوى السياسية الديمقراطية والوطنية واليسارية النهضوية ، وعن الجماهير ، للتحرك الفاعل والوقوف امام الخطر القادم ، سياسياً وفكرياً وشعبياً ، قبل ان يجرفنا طوفان الظلامية وتحرقنا نيران الطائفية .فلم الانتظار بعد ان سد فراغ التاريخ بهذه القوى الدينية المتطرفة!