في عملية التفاوض السياسي توجد خطوط تحكم حركة المتفاوضين لايمكن تجاوزها بأية حال وتحت أية ضغوط وهذه تسمى الحدود الدنيا المقبولة , وفي المقابل هناك حدود عليا وهي تعبر عن طموحات كلا المتفاوضين لا عن الأهداف الحقيقية للتفاوض ,
بمعنى أن الحدود العليا خطوط مرنة يمكن التساهل فيها نزولا في المساحة بين الحدين وباتجاه الحدود الدنيا , ومسافة التسامح لكل طرف تعتمد على عاملين , ذاتي وموضوعي .
الذاتي يتصل بكفاءة المتفاوضين وإحاطتهم بجميع جوانب القضية وقدرتهم على المناورة بالتوقيت لجهة الاختيار المناسب للإحداثي الزمني في إطلاق الأهداف , أو استغلال السقوف الزمنية للضغط على الطرف المقابل والتضييق على خياراته تمهيدا لإجباره على الرضوخ لأكبر قدر من المطالب , أو المناورة بالوقت بالمراوحة وإبقاء الوضع على ما هو عليه - رغم سلبيته - بصورة مؤقتة إذا تبين عدم إمكان الحصول على الحد الأدنى المقبول وظهرت مخاطر تجاوز الخط الأحمر , ذلك انتظار لإمكان حدوث تغييرات على العامل الثاني الحاكم الأقوى للمفاوضات وأعني به العامل الموضوعي والمتعلق بحاجة الطرفين للوصول لاتفاق في إطار الضرورات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تدفع إليه , ومساحة الدعم الشعبي كمؤشر للإجماع الوطني , ومعطيات المواقف السياسية المحلية والإقليمية والدولية التي تحيط بالمفاوضات وآفاق التغيير المستقبلي فيها . وكمثال لذلك طبيعة الإدارة الاميركية المقبلة وموقفها من التواجد العسكري الأميركي في العراق ومصدر تمويله المادي , في ظل مطالبة اعداد كبيرة في الكونغرس خاصة من الديمقراطيين بتحميل العراق التكلفة المادية للوجود العسكري الأميركي المستقبلي , كذلك موقف اوباما حال فوزه في الانتخابات وتجاه تعاطيه السياسي مع مفردات مشاكل المنطقة , واحتمال إبرام صفقات ومقايضات سياسية تنفس من الاحتقان وتخفض درجة تعارض وتصادم المصالح والأهداف في محيطنا الإقليمي.
هنا أريد أن اقول بقدر ما أظهرت المطالب الأميركية الأولية من الإتفاقية تجاوزا واضحا للخطوط الحمراء العراقية , ومساسا بمقومات السيادة الوطنية المتمثلة بسيطرة الدول على كامل ترابها ومجالها الجوي ومسؤولية حماية مواطنيها , ذلك بالمطالبة بحرية وسرية التحرك للقوات الأميركية وحصانتها من ملاحقة القضاء العراقي ووضع المعتقلات الأميركية خارج سيطرة العراق بدواعي مكافحة الإرهاب .. بنفس القدر وفي المقابل أظهر الشارع العراقي والفعاليات السياسية درجة عالية من الوعي بالمصالح العليا للوطن وإجماعا ملحوظا بشأن ثوابت السيادة العراقية ورفضا قاطعا لأي مساس بمفــرداتها .
فقضايا بهذا الحجم من المساس بالمستقبل العراقي تحتاج إلى جبهة متماسكة وواعية تصنع رأيا عاما حاضرا في ساحة إعطاء الجهد العراقي الرسمي الإسناد التفاوضي المناسب والزخم المطلوب الذي يحافظ على ثبات حركته الضاغطة على الجانب الأميركي ,المطالبة بضرورة خفض سقف مطالبه وجعلها في مستويات لاتمس بالسيادة الوطنية .
ولاشك أن هذا الحراك الحكومي والشعبي قد دفع الجانب الأميركي إلى مراجعة النقاط الخلافية وتخفيض سقفه بإتجاه الاقتراب من الإرادة العراقية , وقد نشرت الصباح البغدادية في يوم العاشر من حزيران تصريحا للمتحدثة الرسمية باسم السفارة الاميركية في بغداد ميرمبي نانتونغو أن الادارة الاميركية حددت حديثا اسسا لاستمرار المفاوضات مع الحكومة بِشأن الاتفاقية ... في إطار إشارتها لحق الشعب العراقي في مناقشة الإتفاقية في ظل التشدد في موضوع السيادة العراقية ورفض تواجد دائم للقوات الأميركية في العراق , وأن تساهم الإتفاقية بأن يكون للعراق دور في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة , وهذه النقطة من شأنها أن تكون مركزا لدائرة متسعة من التعاون المشترك بين العراق والجوار لتحقيق الأمن الثنائي والإقليمي ومكافحة الإرهاب , لأن الأمن القومي لايمكن تأطيره بالحدود الجغرافية للدولة بل تتسع آفاقه إلى مديات أبعد , لتبرز الحاجة الملحة في الإطار الستراتيجي لإيجاد معادلة إقليمية - دولية تتوازن أطرافها بدقة لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي .
أما من منظور الأشهر المقبلة وفي ظل السقوف الزمنية التي تحكم العلاقة العراقية - الأميركية , والمحددة بنهاية العام الحالي وانتهاء تفويض الأمم المتحدة وقدوم إدارة أميركية جديدة , فانني كمواطن عراقي أزعم بالإضافة لما تقدم ذكره من حماية السيادة الوطنية وأمن العراقيين بمصاديقها المتعددة, أن النموذج المثالي للمطالب الشعبية العراقية يتحدد على الأقل بنقطتين : الأولى أن يتضمن الإتفاق العراقي - الأميركي بندا واضحا يعطي مجلس النواب العراقي المنتخب سلطة إنهاء الوجود الأميركي على كامل الجغرافية العراقية حال توفر الظروف المناسبة كإكمال بناء الجيش العراقي , ويتم تحديد ذلك بإرادة الأغلبية البرلمانية المطلقة , والمطلب الثاني إلزام الجانب الأميركي العمل على مسـاعدة العراق للخروج من قيد البند السابع حال توقيع الإتفاق بشطره الأمني , على قاعدة إلزام الأميركان بما أقروه هم من شرعية ديمقراطية للعملية السياسية بخطوطها الدستورية والبرلمانية والشرعية الحكومية , ونجاح العراق بالتصدي لإرهاب القاعدة رغم التكلفة الجسيمة سواء بالأرواح أو الأموال والفرص , وأن النموذج العراقي بعد التغيير هو أبعد ما يكون عن تهديد السلم العالمي ولم يعد البند السابع ضروريا بل مجحفا بحق العراق ومنطق العدل والحكمة في العلاقات الدولية .
أقرأ ايضاً
- يرجى تصحيح المسار يا جماهير الكرة
- لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة
- كرة القدم والأجواء الحارّة.. الأضرار والمخاطر الصحية ومعالجتها