- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لا مكان لـ "حُسْن الظن" في السياسة
بقلم: سالم مشكور
خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وحينما كانت الحرب دائرة بين العراق وإيران، كانت العلاقات بين طهران وموسكو (التي كانت عاصمة الاتحاد السوفيتي آنذاك) متوترة، بسبب احتلال أفغانستان وتحول روسيا إلى دعم الموقف العراقي. في أحد الأيام، وصلت برقية عاجلة من السفير الإيراني في موسكو تفيد بأنه تعرض للإهانة في وزارة الخارجية السوفيتية.
قال إنه تم استدعاؤه للاحتجاج على تصريح صدر من طهران أزعج موسكو، وخلال إبلاغه احتجاج الحكومة السوفيتية كانت اللغة استعلائية تنطوي على تهديد، ومع احتدام النقاش بين السفير ومسؤول الخارجية السوفيتية بادر الأخير إلى توجيه صفعة قوية إلى وجه السفير الإيراني، الذي غادر مبنى الخارجية إلى السفارة تحت وقع الصدمة مما حدث. لم تعلن طهران الخبر وطلبت من السفير التزام الصمت.
تعاملت مع الحدث بحكمة، حفظاً لماء الوجه ومنعاً للتصعيد الذي قد يؤثر على جهود إيران في الحرب مع العراق آنذاك. في عصر ذلك اليوم تم استدعاء السفير السوفيتي في طهران على وجه السرعة إلى الخارجية الإيرانية، وتركوه في مكتب سكرتير أحد مساعدي الوزير، ينتظر لمدة ثلاث ساعات حتى انفجر غاضبا، وبدأ بالصراخ والاحتجاج على هذه الإهانة. فجأة فتح باب المكتب ودخل عليه شخص وبادر على الفور صفع السفير الذي أخرسته الصدمة وقال له: سفيرنا تعرّض لصفحة اليوم في مبنى خارجيتكم، وهذه الصفعة في مقابل تلك. أبلغ حكومتك بان الأمر منتهيٌّ بالتعادل. كان ذلك الشخص هو محسن رفيق دوست القيادي في الحرس الثوري آنذلك.
استحضرت تفاصيل تلك الحادثة، التي رواها لي بشكل شخصي حينها دبلوماسي إيراني مؤكدا لي عدم نشرها، وأنا أتابع مجريات قضية سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومعه وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان وعدد من المسؤولين الآخرين، عندما كانوا عائدين من مراسم افتتاح سد مشترك بين إيران وجمهورية أذربيجان. استغربت من بعض المحللين السياسيين وهو يتحدث عن حسم موضوع سبب السقوط بعدما أعلنت إيران أن الطائرة اصطدمت بجبل بسبب خلل فني، وانتقد إصرار بعض المتحدثين على اعتماد «نظرية المؤامرة» والحديث عن «فعل فاعل» وراء الحادث. ينسى هذا البعض أن السياسة في عالمنا لا تقوم على حسن الظن، بل إن المؤامرة تشكل جزءاً رئيسيا من التعاطي السياسي بين الدول، خصوصا إذا كانت في حالة تنافس أو خصام. أولا: صحيح أن إيران أعلنت أن الحادث وقع بسبب خلل فني والاصطدام بقمة جبل، لكنها لم تقل إن الأمر تم قضاء وقدراً وليس بفعل فاعل. فالخلل والاصطدام يحتملان عنصر المؤامرة فيه ومن السذاجة النظر إلى الأمر بحسن ظن، خصوصا مع توفر معطيات تعزز حالة الشك، وتحليل خبراء فنيين عارفين بتفاصيل الطائرة وإمكانية سقوطها. الخبير الأمني أحمد الشريفي، وهو طيار عسكري سابق يقدم أكثر من دليل على عدم إمكانية سقوط هذه الطائرة دون عمل مقصود، واستحالة احتراقها بالشكل الكبير الذي جرى، وأدى إلى تفحم الأجساد، إلّا بصاروخ. إلى جانب ما يقال إن أذربيجان أصرت على افتتاح السدّ من قبل رئيسي البلدين، ومعروف أن إسرائيل متوغلة أمنياً في هذا البلد، بل تعتبره قاعدة متقدمة لها للتجسس على إيران، وهو سبب رئيسي في التوتر الدائم بين إيران وأذربيجان. اختيار الاستهداف المحتمل عند عودة الرئيس ربما يكون هدفه تحديد الطائرة التي يستقلها بين الطائرات الثلاث، فضلا عن مؤشرات عديدة أخرى تدعم عملية الشك في حقيقة ما جرى.
هنا سينبري من يتحسس من سوء الظن بالقول: لماذا لم تتخذ طهران أي موقف أو -على الأقل – ترك الباب مفتوحا أمان إعلان مستقبلي عن وجود مؤامرة. الجواب ببساطة يأتي على صعيدين: أولا: الإعلان الإيراني لم ينفِ «القصدية» في الحادث، بل تحدث عن خلل واصطدام وهو تعبير يحتمل الكثير من التفاصيل. ثانيا: بالعودة إلى قضية تبادل الصفعات بين الدبلوماسيين السوفيتي والإيراني الواردة في بداية المقال واسقاط السلوك الإيراني وأساليبه العميقة والمتأنية في الرد، يمكن تفسير الموقف الإيراني من حادثة الطائرة.
التحليل يبقى عملية ربط بين معطيات، مع قياس على حالات سابقة وافتراضات مبنية على معرفة بطبيعة كل طرف، وليس الاقتصار على ظواهر الأمور للحكم على الأحداث.