- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لماذا يفشل العمل الجماعي العراقي...؟!
ما يميزنا كمجتمع وشعب هو فقدان القدرة على التعامل الجماعي الناجح فيما بيننا , وانحراف تفاعلاتنا وتحولها إلى صراعات سلبية تقضي على أهدافنا وتبدد طاقاتنا وقدراتنا المتنوعة, لأنها تهدرها في مسارات جانبية تبتعد كثيرا عن خط مسار المصلحة الجماعية والوطنية. وقد عانت الأجيال في ظل الدولة العراقية الحديثة من هذه العلة الكبيرة وما استطاعت أن تواجهها وتعالجها وتتغلب على معطياتها التي أضرت بالحياة وعلى كافة المستويات. ويبدو أن هناك بعض العوامل التي تساهم في ديمومة الفشل الجماعي وسيادة الفردية لبعض الوقت واحتدام الصراعات الدامية. ومن هذه العوامل ما يلي:
أولا: فقدان التربية الجماعية:
تربيتنا بصورة عامة لا تستند على أسس التفاعل الجماعي وإنما تميل إلى تأكيد الذات الفردية والتسلط والتفاعل السلبي مع بعضنا. وهذا يتواصل معنا في صبانا وشبابنا ورجولتنا, مما يؤدي إلى تحقيق التفاعل الخشن والمتوحش أحيانا فيما بيننا.
ثانيا: غياب مفاهيم العمل الجماعي
للعمل الجماعي مفاهيم وأصول وقواعد, نحن نجهلها ولم نسمع بها, بل نشأنا على تأكيد العمل الفردي ونبذ التفاعل الجماعي لخوفنا منه وجهلنا لقواعده وأصوله.
ثالثا: عدم توفر الوعي الديمقراطي
الديمقراطية كلمات نتحدث بها ومقالات نكتبها , شانها شأن أي شيء اعتدنا على الإفاضة في الكلام عنه ولكن دون ممارسة جادة وواضحة لما نقوله وندعيه عنه. وهذا ينطبق على جميع التفاعلات الاجتماعية في حياتنا , من حزبية وغيرها الكثير مما نقوله ولا نفعله. وقد شبعنا من الشعارات الفارغة التي ألقت بالأجيال في ظلمات المجهول ومتاهات الضياع.
رابعا: الذاتية
التأكيد الذاتي حالة فاعلة ومستعرة في بنياننا النفسي والفكري وتقودنا إلى ترسيخ معالمها على جميع المستويات. وهذه النزعة الذاتية تعززها العديد من السلوكيات المتوارثة في حياتنا عبر الأجيال. فعلاقتنا تكون مبنية على الخشونة لأنها تسعى إلى تأكيد الذات وتحقيق مراسيم شرائع الغاب, وهي لا تعترف بالمعاصرة والتحضر ومنطوقها \"إذا لم تكن ذئبا ذؤوبا بالت على رأسك الثعالب\" وبهذا المفهوم التربوي الكامن فينا نحن نتحرك ونتواصل مع بعضنا البعض.
خامسا: القهرية
المجتمعات المقهورة يحقق أبناؤها قهرا متبادلا فيما بينهم لكي يتوافق سلوكهم مع الحالة الجمعية التي هم فيها. فلا يمكننا أن نرتجي من مجتمع مقهور ومضطهد أن يسلك سلوكا اجتماعيا جماعيا مفيدا وذا قيمة إيجابية, لأن القهر يثير العواطف ويشل القدرات العقلية ويمنع التفكير ويصبح التفاعل مجرد استجابات فورية ومشحونة بجميع متطلبات ومبررات البقاء الطبيعية.
سادسا: الفهم السلبي للاختلاف
هذه معضلة لازلنا لم نرتقي إلى تجاوزها , فنحن مشحونون بالطاقات الغاضبة والانفعال الشديد تجاه أي موقف مخالف لنا. ولا يمكننا أن نرى بعين العقل ونفهم ما يدور لأن الثورة الانفعالية التي يحققها الاختلاف فينا تتفوق على جميع قدرات الحكمة والحلم والعقل. ولازلنا لا نعرف التعامل مع الاختلاف ونجهل مهارات التعبير عن مواقفنا المختلفة وكيف نصبها في بودقة واحدة لنصنع منها سبيكة الاختلاف القوية والضرورية للبناء الاجتماعي والحضاري المعاصر.
سابعا: التفسيرات الزورية للآراء
لا يمكن لأحدنا إلا أن يظن سوءا بالآخر ويحسب النوايا السلبية أولا ولا يرى النوايا الإيجابية مطلقا. وهذه عاهة سلوكية قائمة فينا وناجمة عن سلسلة التفاعلات السلبية التي جرت في بلادنا. فأصبح من الواجب لتحقيق البقاء أن نكون في أعلى درجات اليقظة والحذر من بعضنا البعض. وكأننا في صراعات خفية متأججة. وقد ساهمت الأحداث السياسية والحزبية المتلاحقة في تعزيز هذا السلوك السلبي. كما أن الكرسي لعب دورا أساسيا في تحقيق سوء الظن بالآخر من حوله.
ثامنا: الأنانية
نحن أنانيون بطبيعتنا ويتسيد البخل أرجاء تفاعلاتنا ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نتخلى عن الأنانية ونطمئن إلى الجماعية في تعاملنا مع بعضنا. لأن الجماعة قد أعطتنا دروسا كبيرة في عدم الأمان وغياب الاطمئنان. وهذه الصفة المتمكنة منا هي التي تقف حاجزا صلدا أمام تحقيق العمل وبناء القرار الجماعي. وقد شاهدنا ذلك واضحا في مسيرتنا وعلى مر العقود ولازلنا لا نعرف إلا التعبيرات الأنانية ذات الآفاق الضيقة , والمصالح المبنية على تأكيد الذاتية وتحقيق الرغبات القبلية والعشائرية والعائلية والحزبية والفردية المقيتة.
تاسعا: الشك
العراقي من أكثر العرب سقوطا في أحواض الشك الذي يهيمن على رؤاه وتصوراته ويدفع به إلى سلوكيات غير مبررة ولا تتفق مع أبسط معايير السلوك الصحيح. وكل منا لو نظر إلى نفسه لوجد أنه قد عاني في يوم ما من سلوك الشك الذي أسقطه عليه آخر من حوله. وهذه النزعة الكامنة في أعماقنا تدفع بنا إلى عدم الثقة ببعضنا البعض , وبذلك يكون الشك من العوامل الرئيسية في تدمير العمل الجماعي أيا كان مستواه. وعندما يتعلق الأمر بالقوة والكرسي فأن طاقة الشك لدينا تكون في أقصى ذروتها وفعلها القاسي المرير.
عاشرا: ضعف الخبرات القيادية
كعراقيين لم نتعلم أصول ومبادئ وفنون القيادة, فلم ندرسها في المدرسة ولم نشاهدها في حياتنا العامة , ولدينا جهل كبير بالأسس والمهارات القيادية , ولا نعرف القائد إلا مَن تصدر مراكز القوة وجلس على كرسي الوعيد. فالقيادة عندنا متمثلة بالقوة والخوف وما عداها لا يقترب في أذهاننا من معنى القيادة. ولا زلنا نمضي على سنة \" الإمام الذي لا يشور ليس بإمام\" فالقائد الذي لا يؤذي ليس بقائد , وقس على ذلك من السلوكيات والتصورات الفاعلة في لاوعينا والمعبرة عن دورها في سلوكنا.
حادي عشر: غياب القانون
عندما يفقد القانون دوره في حياة الناس يكون العمل الجماعي بعيدا عن المنال, لأنه مبني على أصول وقواعد وضوابط, وعندما لا تعرف الجماعة قيمة الانضباط والقانون , فأن العمل الجماعي يكون ضحية وبعيدا عن التحقيق. فكيف يمكننا أن نعطي جماعيا ونحن غير منضبطين قانونيا. بل أن فينا قِوى ودوافع قاهرة تأخذنا في مسارات تتعدى على القانون وتتجاوزه, ففي عرفنا الجمعي الخضوع للقانون ضعف والخروج عنه قوة وفخر ورجولة. وهذا يكون واضحا في سلوك العاملين في السياسة ومَن يرتبط بهم بصلة ما, حيث يكون القانون دوما لا ينطبق عليهم ولا يعرفهم ولا يعرفونه , لأنهم يحسبون أنفسهم فوقه .
ثاني عشر: المواطنة المفقودة
أثبتت الأحداث التي جرت وعلى مدى السنوات الماضية أن المواطنة العراقية فيها خلل كبير , بل وأنها حالة مجهولة في عرف المجتمع ولا يمكن التعبير عنها لأنها غير معروفة. وقد أكدت ذلك الأحداث بما يندى له جبين الوطن وتتعجب منه المجتمعات والشعوب. وبغياب المواطنة يكون من العسير جدا تحقيق مفردات التفاعل الجماعي ونجاح أي نشاط مبني على الجماعة. لأن النشاطات البشرية تجنح دائما إلى التوطن في فرد وتعطيه قيمة كبيرة لا يستحقها لكي يسحقها ويؤذيها, ويتسلط على مصيرها ويمتلك وجودها ويسخرها لتحقيق نواياه.
ثالث عشر: المرأة الغائبة:
للمرأة دور كبير في بناء المجتمع وتحقيق التفاعل المتوازن ما بين أركانه. وبغياب المرأة ودورها من حياتنا التربوية في المدرسة والمجتمع , يتأكد في داخلنا الدور الفردي والتسلطي على بعضنا البعض.
رابع عشر: نزعة التسلط
التسلط نزعة عراقية متميزة ومؤكدة عبر مسيرة التفاعل الحزبي والسياسي في البلد. وقد جاءت الأنظمة جميعها ولم تجنح إلا إلى تعاطي التسلط لكي تحقق ما تريد لفترة قصيرة ومن ثم تسقط في حفر النسيان والهوان. وقد تمكنت منا هذه النزعة وأصبح التنازل عنها يحسب من الخسران ومن الثوابت التي لا يمكن القبول بها وعلينا أن نسفك الدماء من أجلها. فترانا نتسلط على بعضنا البعض ولا نعرف لماذا ولأية غاية سوى لإرضاء غريزة التسلط الجشعة الطباع في أعماقنا.
خامس عشر: ادعاء المعرفة
العراقي يدعي أنه يعرف وهو لا يعرف, ولا يقبل بالإقرار بأنه لا يعرف وعليه أن يعرف. وتلك خصلة سلوكية واضحة في تفاعلاتنا مع بعضنا, فإياك إياك أن نقول لأحدهم أنك لا تعرف, لأن في ذلك مسبة وإثم كبير يوجه عليك نيران الغضب والعداوة ويلقي بك في أتون الويلات والخصومات. والعجيب في أمرنا أننا لا نقر بعدم المعرفة ولا نحاول أن نبحث ونقرأ, وهذه المصيبة السلوكية تدفع بنا إلى قرارات خاطئة ندفع ثمنها باهضا في أوقات لاحقة. فقائدنا يعرف وقيادتنا تعرف وكل منا يعرف وقد أوصلتنا معرفتنا الخرافية إلى ما نحن فيه من الأحوال الصعبة.
سادس عشر: عدم الاعتراف بالخطأ
\"الاعتراف بالخطأ فضيلة\" نعرف ذلك ولكننا جميعا لا نقر بأخطائنا بل نبررها ونمعن بالتمسك الدفاعي عنها , حتى ولو كلفتنا كثيرا جدا. وهذه خصلة سلوكية تساهم في تدمير العمل الجماعي وبناء عناصر الصراعات المضرة بالمجتمع.
سابع عشر: عدم الإقرار بالخسارة
من الصعب جدا أن يعترف الواحد منا بخسارته أمام الآخر . بل أن ذلك من مستحيلات السلوك العراقي الذي تترتب عليه العديد من النتائج المأساوية. فالخسارة في ثقافتنا تعني العداوة والصراع الدامي من أجل رد الاعتبار وتدمير فوز الآخر علينا.
والخلاصة أن العمل الجماعي نشاط نتعلمه في البيت والمدرسة والمجتمع. ونحن لم نتربى على هذا الأسلوب في صناعة الحياة لأنها غير محددة المعالم في تصوراتنا. وما تعلمنا التفاعل الاجتماعي الجماعي في العائلة أو المدرسة, وما رأينا من يحترم آراءنا ويقدر دورنا, بل الناجح فينا يعاني الأمرين من أسماك القرش البشرية التي تريد النيل منه بأقرب فرصة متاحة. ونحن لا نمتلك نشاطات اجتماعية يتحقق فيها جمع شمل الأسرة وتحقيق التفاعل المشترك الذي يحقق السعادة البشرية. وقد ساهمت الأسباب أعلاه وغيرها في فشل العمل الجماعي في مختلف الجوانب والمستويات واللجوء إلى القوة لتحقيق إرادة الفرد أو الفئة أو الحزب. وهذا قد ينطبق على عدد من المجتمعات العربية الأخرى وليس المجتمع العراقي وحسب.
أقرأ ايضاً
- العملة الرقمية في ميزان الإعتبار المالي
- لماذا ترتفع درجات الحرارة في العراق؟
- لماذا أدعو إلى إصلاح التعليم العالي؟ ..اصلاح التعليم العالي الطريق السليم لاصلاح الدولة