كم كان دقيقاً وصائباً الفنان العراقي الراحل ابراهيم زاير حين اطلق جملته الشجاعة: ( النقاء مادة عسيرة الاكتساب) لا أدري لماذا اصبحت ظاهرة التكسب الرخيص ملازمة للكثير من المثقفين العراقيين،
ففي الوقت الذي يهانون به علانية من قبل العديد من الساسة وهم يشيرون بتبعية المثقف لهم الا انهم يقابلونه بالرضوخ والمحاباة والامتداح الزائف في الوقت نفسه ينبري منهم من ينبري ليعيد الينا جملة الشاعر(انا ابن جلا وطلاع الثنايا) فتجده الأبن البار للحداثة والمغايرة وبجرة قلم يسقط ويسخر من قامات ابداعية كبيرة . بذات الوقت تجده أول المهرولين والمستجيبين لدعوة أي من الساسة والمسؤولين الذين يصنعون منه بوقاً دعائياً رخيصاً مقابل حفنة مذلة من المال (الحرام طبعاً) نتذكر جميعاً طوابير المداحين التي تتوسل حد الذل من أجل القاء مدائحياتهم ومطولاتهم الهشة أمام الطاغية على مدى فترة حكمه الأسود، وما ان سقط تمثاله الأجوف في ساحة الفردوس حتى اشتعلت نيران التبريرات التي خلصت مضامينها لمضايقات النظام وقساوة اجهزته القمعية، لكنني مصر للحظة هذه ان ذلك النظام برغم وحشيته وتفاهته ودونيته لم يضع مسدساً في رأس شاعر أو قاص أو روائي مقابل امتداحه، الا ان طوابير المتطوعين هي التي سعت للوصول لباحات القصر الجمهوري واستوديوهات الاذاعة والتلفزيون وهي التي أدمنت املاء الصفحات الثقافية بذلك الاسفاف والابتذال وهي التي اسهمت في صناعة الدكتاتور. الآن اريد من يجيب على سؤالي: من هو السياسي أو المسؤول الجديد هدد احدهم أو مارس قمعه وضغوطاته حتى جعل المتثاقفين المتلونين يصولون ويجولون في صالونات الساسة؟ ولا من مجيب على هذا السؤال بكل تأكيد انما الاستجداء والهزالة وحدها تمتلك الاجابة.
ولكي أكون دقيقاً أكثر اورد هذه الحادثة : في الدورة الانتخابية السابقة ومع بداية الحملات الاعلامية برزت ظاهرة المتعهدين المروجين للمرشح هذا وذاك، وازدحم نادي اتحاد الادباء باللاهثين وراء حملات الدعاية الانتخابية، ففوتحنا بلقاء أحد المرشحين الكبار في مقر اقامته الفاره، فطلبنا من المتعهد الثقافي ان يكرس اللقاء لمناقشة مشروع ثقافي عراقي وطني، ولكن سرعان ما وصلت تسريبات موثوقة بأن عددا كبيرا من بقايا سقط متاع المسرح التجاري سبقونا لذلك المكان والقضية وبكل ما فيها ان احتفالاً بالمرشح تتخلله كلمات الاطراء الرنانة و(النكات) التي تزيد ملامح المرشح ابتسامة والهتاف العالي (بالروح .. بالدم.. نفديك يا..) الأمر الذي اضطرنا للاعتذار عن الذهاب وتمسكنا بالبقاء في مكاننا واذكرالمعتذرين عن حضور تلك الحفلة الانتخابية وهم الشاعر الراحل منذر الجبوري، الناقد المسرحي عدنان منشد، الشاعر محمود النمر والباحث ستار الناصر بالاضافة لي ولا اتذكر ان كان آخرون قد نسيت اسماءهم وهم قلة جداً، ولما عاد المروجين كانت وجوههم طافحة بالبشر لأن أيا منهم استلم (200) دولار!!.
هذه الأيام شرعت الصالونات الدعائية ابوابها مبكراً وشعراء عديدون ادمنوا اللهاث لعقد صفقات الدعاية المدفوعة الثمن، فهل سيحق لهم باملاء تنظيراتهم وفتل عضلاتهم الابداعية بوجوهنا واملاء الصفحات الثقافية بمنجزاتهم الخاوية.. هذا ما ستجيب عليه الوقائع القادمة ، وأكرر ماقاله زاير
( النقاء مادة عسيرة الاكتساب) .. قالها ابراهيم وانتحر، ومن جانبي لاادعوهم للانتحار، بل لمراجعة انفسهم أو الصمت على الأقل.